جاء في القرآنُ الكريم في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات/ 13) يا أيها الناس... وإن أكرمكم عند الله أتقاكم...، خطاب يشمل كل إنسان، تكليفاً وتشريفاً، لم يقل الله تعالى (إن الكريم منكم عند الله أتقاكم)، بل قال {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وذلك لأن كلَّ بني آدم كرامٌ عند الله تعالى ابتداء، تصديقاً لما لقوله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء/70).




Image result for ‫القران الكريم‬‎






فكل هذا السلسلة التكريمية من قوله كرمنا.. وحملنا.. ورزقنا.. وفضلنا، ليس ليكون هذا الإنسان المكرم مستباحاً، ولا ليكون مهاناً.. ولا ليكون مضطهداً في أمنه ودينه وعرضه وماله ..

فالجريمةُ الآثمة التي نعيشها اليوم أيها الكرام.. هي أن من يعتدي على هذا الإنسان المكرَّم، إنما يعتدي عليه باسم الله المكرِّم، ولذلك فإن الإثم مضاعف على المعتدي، مرة لأنه أهان المكرَّم، ومرة لأنه أهانه باسم المكرِّم الذي لم يأمر بذلك، إن علاقة المسلم بالمسيحي، هي من علاقة السماء بالأرض، ومن علاقة الوحي بالرسالة، وهي من علاقة أخوة الأنبياء للأنبياء، ومن علاقة المؤمن بالإيمان ، ومن علاقة الإنسان بالإنسان.

ولقد تزامنت هذه العلاقةُ المباركة بالقول والفعل مع نزول الوحي، فكانت أولى إشاراتها، في استهلالية الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، عندما اضطهد الوثنيون المؤمنين من أتباع النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة، لأن فيها ملِكاً مسيحياً عادلاً هو النجاشي رحمه الله، إيماناً من نبينا الكريم بأن الرسالة السماوية تُحمى من رسالة سماوية مثلِها، فبعدما لحق الوثنيون بالمسلمين إلى الحبشة واشين إلى مليكها ما اعتبروه تمرد هؤلاء وبأنهم يقولون عن عيسى عليه السلام انه عبد، فقرأ جعفرُ بنُ أبي طالب على النجاشي آيات من القرآن الكريم، فقال النجاشي كلمته المشهورة، «إن ما جاء به نبيُكم وما جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة». 




قواسم مشتركة

ما يجمعنا مع المسيحيين في هذا الشرق، هو مشكاةُ النور الواحدة للرسالات السماوية جمعاء، ما يجمعنا مع المسيحيين هو مهبط الوحي في هذه البقعة المباركة من العالم... في هذا الشرق الذي... وسمي الشرق شرقاً، لأن الشمس تشرق منه إيذاناً بنهار منير جديد، ومن الشرق الذي أشرقت منه رسالات السماء، لتنير الأرضَ والعقولَ والأفئدةَ بنور المعرفة والرحمة والمحبة والسلام...

فليس من قبيل الصدفة أن يكون كلُّ أنبياء الله تعالى من هذا الشرق المبارك، إنه اختيار الله، فالله تعالى هو الذي اختار ذلك، هذه إرادته وهذه مشيئته.

ما يجمعنا مع المسيحيين في هذا الشرق، هو هذا الشرق نفسه، في نشأته، في أرضه، وفي سمائه، في لغته، وفي العرق والدم، في سحره الأخّاذ، وقبل كل ذلك تجمعنا مع المسيحيين الإنسانية التي كرمنا الله بها جميعاً.

«إن ارتباط المسيحيين بالواقع العربي في هذه الأرض، لهو ارتباط وثيق، وما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، فنحن جميعنا عرب... وجميعنا أهل هذه المنطقة سواء بسواء، والمسيحيون العرب قبل الإسلام.. ولذلك، آن لنا أن نخرج من ضيق طوائفنا ومذاهبنا، إلى فضاء إنسانيتنا وإيماننا الواسع، عندها تنعدم الفوارق الطائفية والمذهبية التي نفذ منها أعداء الإيمان وأعداء السلام، ولما لم نفعل.. سهل على أعداءِ الإنسانية التلاعب بالفوارق، فحولوا الاختلاف إلى خلاف، وزرعوا بذور الشقاق بين الأديان.. ثم بين المذاهب.. ثم بين المذهب الواحد، ومنه إلى مناطق وقبائل وعشائر، في جاهلية ثانية.. يضرب بعضها رقاب بعض..

الكل يعلم أن أول تهجير حقيقي وجماعي لتفريغ العالم العربي من المسيحيين، بدأ بتهجير المسيحيين من فلسطين، قبلةِ المسيحية وكعبة المسيحيين، على مدى أكثر من ستين سنة، والنزف مستمر بهجرة المسيحيين من الأرض المقدسة... ثم توالى تهجيرُهم بعد ذلك من لبنان، تارة بالترغيب وتارة بالترهيب، ثم من مصر، والآن من سوريا والعراق على نطاق واسع..، وهذا الأمر الخطير تتم تغطيته تحت عناوين إنسانية من بعض السفارات، التي لا تتورع عن تقديم امتيازات خاصة على المجيب الهاتفي الآلي، لمن تسميهم «الإخوة المسيحيين السوريين أو العراقيين» تشجيعاً لهم على الهجرة من أرضهم وترك أوطانهم، وليس بعيداً عن هذا المخطط ما جهر به وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر عام 1975،

في بداية الحرب العبثية في لبنان بدعوة المسيحيين للهجرة إلى أميركا، ولا كذلك ما غمزت منه وسائل الإعلام عن همس رئيس دولة أوروبية كبرى في أذن مرجعية دينية لبنانية كبرى لتشجيع المسيحيين اللبنانيين للهجرة إلى الغرب..

إننا وبكل صراحة نرى في تفريغ الشرق من المسيحيين، محاولة جدية وأخيرة لتسعير الصراع الإسلامي الإسلامي، ولنزع ميزة  التنوع  والتعدد عن العالم العربي.

وبصراحة أكبر، إن أكثر ما يزعج أعداء الإيمان الطامعين بنهب الخيرات والثروات، هو هذا الصوت العربي المسيحي المدافع عن قضايا العرب، ولذا، يجب علينا كمسلمين وكعرب، أن نحافظ على وجودنا بكل مكوناته، من خلال حفظ الوجود المسيحي، لنبقي على النافذة العربية المسيحية مفتوحة على الغرب ليكون لنا صوت عربي مسموع في المحافل الدولية يدافع عن قضايانا، ولإسقاط كل محاولات حصر الصورة في أعين الغرب بخطر إسلامي مزعوم على العالم أجمع. 




ظواهر غريبة

وهنا لا بد من الإشارة إلى الظواهر الدينية المستجدة الغريبة عن ديننا، والتي تشوه صورة الإسلام كل يوم بفهم مغلوط متعمد من خلال تفسير بعض النصوص، وهو تفسير لا نسلم منه حتى نحن كمسلمين، وكأن المطلوب من هذه الظواهر.. تنامي الحركات الأصولية التكفيرية الإلغائية الظلامية بين أصحاب الرسالات، لاستجرار أصوليات مقابلة من كل المذاهب والطوائف، تعمل بشكل أساسي على تشويه صورة الإيمان، حتى يكفر الناس بكل دين، ثم لإضعاف مفهوم الدولة كحاضنة للجميع يقبل بها الجميع ويسلم لها الجميع، بعدها تثار الغرائز والنعرات، ومعها يبدأ العزف على تخويف الناس، لتبرير فكرة الأمن الذاتي بالتسلح الطائفي والمذهبي لحماية الحياض والأعراض والمقدسات، فنتناحر فيما بينها، فيقتل من يقتل، ويهجر من يهجر، ويهاجر من يهاجر، ومن يبقى يبقى ضعيفاً هزيلاً ممزقاً.. والمستفيد من كل ذلك هو الطامع بخيرات وثروات هذا الشرق .

ولقد أشار سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان في خطاب الانتخاب، إلى مكمن الداء، ووصف الدواء بالقول:» إننا محتاجون اليوم قبل الغد إلى مكافحة التشدد والتطرف والعنف باسم الدين في أوساطنا، ومحتاجون إلى تواصل وتفاهم أكبر في العلاقات الإسلامية- الإسلامية، والإسلامية- المسيحية ، للبلوغ إلى فكر إصلاحي ومبادرات إصلاحية كبرى (...) لأن «ما يجري في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا هول هائل»، متسائلاً «كيف يرغم المسيحي بالموصل وغير الموصل على ترك الدين والدار، وتتهدد حريته وكرامته وحياته باسم قهرٍ فاجرٍ ما أنزل الله به من سلطان»؟ إن الدفاع عن الدين والوطن والعيش المشترك يقتضينا نحن اللبنانيين جميعا، ونحن العرب جميعا ، أن نقوم معا، وبمقتضى التجربة العريقة، بالواجب الديني والأخلاقي والوطني والعربي في مكافحة هذه الفئة الباغية على المسيحيين، كما كافحنا ونكافح هذا التطرف دفاعا عن ديننا وإنساننا، فنحن معا نستطيع القيام بالكثير انطلاقا من لبنان، وطن الرسالة والإنسان».

إن الخطر الأكبر، هو في الدفاع غير المنظم عن المظلومين والمقهورين، الذي قد تستغله وسائل الإعلام بطريقة تحريضية تسيء إلى المظلوم أكثر من إساءة الظالم نفسه، والخطر الحقيقي عندما ينظر المظلوم إلى ما يرتكبه القتلة المجرمون من موبقات بأنه الإسلام، ويشيح نظره عن موقف الإسلامي الحقيقي والجريء لمفتي المسلمين في لبنان على سبيل المثال ولشيخ الأزهر ولمفتي المملكة العربية السعودية... ولذلك اقترح العمل منذ الآن على تشكيل هيئة دينية رفيعة من كل الطوائف والمذاهب في العالم العربي والإسلامي ذات تأثير نافذ ومسموع لأعضائها، تكسر كل قيود الرسميات والبروتوكولات، لحماية العيش الإنساني المشترك في لبنان والعالم كله، لأننا بصراحة نريد أن نعيش معاً بسلام...


شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

Pages