كلمة مأثورة حكيمة، جارية على ألسنة عامة الناس وخاصتهم من عقلاء ومفكرين، وحكماء ومثقفين، وهي بالنسبة للمسلم ذات معنى كبير، ومغزى عميق. ذلك أنها تعني أولا الوطن الذي ولد فيه آباء المرء وأجداده، وينتسبون إليه وينتمون أبا عن جد، وخلفا عن سلف، ويرتبطون بأرضه ارتباط الولاء والإخلاص والوفاء له







 والتعلق به والجهاد في سبيله، والتضحية من أجله بكل نفيس وثمين طيلة قرون وأجيال.
كما يعني الوطن ثانيا بالنسبة للمسلم كل بلاد الإسلام وجميع شعوبها المسلمة، باعتبار المسلم أخا المسلم أينما كان وحيثما كان، وأن المسلمين أمة واحدة، مهما تباعدت بهم الديار، وتناءت بهم الأقطار وشط المزار، كما هو صريح القرآن المبين، وأنهم كالبنيان المرصوص، وكالجسد الواحد كما هو صريح سنة النبي الصادق الأمين، محمد عليه أفضلالصلاة وأزكى التسليم.
وإنما كان حب الوطن من الإيمان، وكانت هذه العبارة المأثورة الحكيمة كلمة صدق وحق في مبناها ومعناها، بغض النظر عن كونها ليست حديثا نبويا صحيحا في لفظها ونصها، وكانت كلمة حق في نطقها ومضمونها، لأن وطن المسلم بلد للإسلام، وأرض للتوحيد والإيمان، ومجال لصالح الأعمال، فحبه هو في الحقيقة والعمق حب لدين الإسلام، ولغة القرآن، ولشرعه السمح الحكيم، ولأخلاقه وقيمة المثلى، وفضائله ومثله ا لعليا، وحب لأمته ا لمسلمة المومنة، ا لمجاهدة في سبيل دينها وعزتها وكرامة وطنها، الصامدة في الحفاظ على سيادتها ووحدتها، الساعية في تحقيق النهضة الشاملة لبلادها وشعوبها في كل مجال.





وهو حب فطري في قلب كل مسلم سوي، ومتجذر في اعماق نفس كل مومن غيور أبيّ، ينشأ عليه ويتربى منذ نعومة أظفاره كل من يتمتع بفطرة سليمة، وطوية نقية، وينعم بسريرة طيبة، وروح صافية مستنيرة، ولايخرج عن ذلك الحب الفطري للوطن، ولايجد عنه إلا من كان منحرف المزاج والفطرة، ولايشذ ويزيغ عن محجته اللاحبة وحقيقة الناصعة إلا من هو عديم الضمير النقي، ومن يخفى وراء ذلك نفسا شريرة وإرادة ضعيفة، وأهدافا شخصية، ومطامع مادية زائلة، تجعله يعق وطنه، ويسيء إليه ويتنكر لفضله عليه، فيندفع مه هواه الجامع، وينساق مع زيغه الخاطئ وراء سراب خادع لمحاولة الوصول إلى تلك المطامع الشخصية والأهداف المادية، ويغتر بذلك في غير إدراك ناضج بالمسؤولية الدينية والوطنية، ولا وعي ولاشعور بالحقيقة التاريخية والاجتماعية التي تستوجبها عليه المواطنة الحق، ويفرضها عليه دينه الإسلامي ويقتضيها شرعه الحكيم.
ولعل المرء يجد أثرا وسندا لهذا الحب الفطري المتأصل فيه نحو وطنه، والكامن في أعماق نفسه نحو بلد آبائه وأجداده في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة صحابته الكرام، حين هجرتهم إلى المدينة المنورة، وإحساسهم فيها بشيء من الشوق والحنين إلى بلدهم الأول مكة المكرمة، فكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله أن يجيب إليهم المدينة ويقول: "اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، وبارك في مدها وصاعها.
كما يجد التعبير عن ذلك الحب المكين للوطن، والولع القوي والتعلق الشديد به في اقوال بعض الأدباء الشعراء، فنجد بينهم من يقول:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
ومن يقول:
وحبب أوطان الرجال إليهمو
مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو
عهود الصبا فحنوا لذلك
بل يجد المرء بينهم من يبالغ، فبذكر على سبيل المبالغة لاالحقيقة، أنه ولو كان في الجنة، وهي أعز وأكرم مايتمناه المسلم على ربه في الحياة الآخرة، لكانت نفسه تحس بشيء من الشوق، وتميل به إلى الحنين نحو وطنه في الدنيا، فيقول في ذلك:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي





وهذا الحب الفطري للوطن، والراسخ في مكامن النفوس السليمة يحمل المواطن المسلم على ان يترحمه في إرادة وعزيمة، وفي صدق واعتزاز إلى حب علني وعملي، يتمثل في التمسك بدينه الإسلامي الحنيف، في اصوله وفروعه، وأحكامه وأخلاقه، ويتجلى في تشبثه عن وعي وإدراك بالمقدسات الدينية والوطنية التي ياخد بها بلده المسلم ويقوم على أساسها، ويسير على هديها ومقتضاها عن بينة وبصيرة من أمره، فيأخذ المرء ويتمسك على سبيل المثال بالمذهب العقدي في مسائل التوحيد والعقيدة، وبمذهبه الفقهي في الأحكام الفقهية، والطريقة الصوفية، وبنوع الرواية القرآنية التي يقرأ بها بلده من بين القراءات السبع المتواترة، ويتمسك باللغة الأصلية لوطنه، وبنظامه الشرعي في الحكم وتسيير شؤون الأمة، وبوحدته الترابية المتماسكة، وبكافة خصوصياته المتميزة، وهي مبادئ عامة يأخذ بها كل بلد مسلم ويتمسك بها، حفاظا على وحدته الدينية والوطنية، ودفعا للتشويش والتخليط على العامة من الناس في تلك القضايا الأساسية، والخصوصيات الجوهرية المميزة لكل بلد من بلاد الإسلام.
وهذه الأسس والثوابت الدينية والوطنية بالنسبة للمغرب العزيز، هي: نظام الملكية الدستورية، القائم على البيعة الشرعية الإسلامية، والوحدة الترابية والوطنية، ثم المذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، والتصوف على الطريقة الجندية السنية، وقراءة القرآن برواية ورش عن نافع، واللغة العربية باعتبارها لغة القرآن ا لكريم والسنة النبوية، والعلوم الشرعية والمعارف الإنسانية، فيتمسك المواطن المغربي بكل ذلك، ويعتز به ويتبناه، ويحافظ عليه عن إيمان وإخلاص وحب واقتناع، واعتزاز بالمواطنة الحقة وخصوصياتها المتميزة، وتجاوبا مع بلده، وقياما منه ببعض الواجب ع ليه نحو وطنه الذي استنشق في اول لحظة من حياته هواءه، وتنسم عبيره وأريجه، فاحتضنه ورباه، وكونه ورعاه صغيرا وكبيرا، ومنحه حقوقا مشروعة، وكفلها له داخل بلده وخارجها، وأوجب عليه بالتالي الوفاء والإخلاص له، والتعلق به، وبجميع مقدساته وخصوصياته.
وذلك لايتنافى ولايتعارض في شيء من قريب ولابعيد مع حب المسلم لكل وطن وشعب من بلاد الإسلام وأمته، واحترام وتقدير الخصوصيات والمميزات التي يتميز بها كل شعب وبلد مسلم عن الأخر، سواء في أموره الدينية أو قضاياه الوطنية أو أحواله الاجتماعية، واهتمامه بتلك البلاد، فيفرحه مايسعدها وينفعها، ويؤلمه مايضرها ويشقيها، باعتبار المسلمين أمة واحدة كالجسد الواحد، وال كالبنيان المرصوص، فهم في الدين واللغة بنو رحم واحد، وهم في الآلام والآمال إخوان، وبذلك يتجاوز المرء النظرة الضيقة لمفهوم الوطن خبه إلى فضاء وأفق أرحب وأوسع فيجمع بين الحسنين إذ لايكمل إيمان مسلم حتى يحب لأخيه المومن مايحب انفسه.
وإذا كان هذا شأن كل مواطن وشعب مسلم تجاه بلده ووطنه، والتمسك بهويته وخصوصياته، فإن المغرب ملكا ودولة وشعبا يعتبر ضمن تلك البلاد الإسلامية التي اشتهرت بالتمسك بدينها وفي مقدمتها، فقد اشتهر هذا البلد الكريم وعرف بالتفاني في حب الوطن والإخلاص له، والتمسك بمقدساته الدينية والوطنية، والدفاع عن حوزته بكل إيمان وقوة، منذ أن تأسست فيه دولته المسلمة، وتكونت على أرضه أمته المومنة المجاهدة، وتأصلت فيه إمارة المونين، وعرفت له حدوده التاريخية،وجفرافية الطبيعة، وثبتت له عليه حقوقه المشروعة والمعروفة.






ويكفي المرء في هذا الصدد أن يختزل التاريخ والعهود الطويلة على مدى أجيال وقرون، فيشير ويذكر من تةاريخ المغرب الحديث والمعاصر، ومنذ الثلاثينيات من هذا القرن العشرين، ماعرفه المغرب ملكا وشعبا من تلاحم والتفاف، وجهاد متواصل، وصمود مستميت، وتضحيات كبيرة، مادية ومعنوية في سبيل هذا الوطن المغربي العزيز، والنعلق بمقدساته ومقوماته، والبرهنة على حبه والتفاني فيه، وأن يستخضر من ذلك ماعاشه مع جلالته المغفور له محمد الخامس طيب الله تراه، وبمع يته، ابنه البار وارث سره وخلفه الملهم، ولي عهده آنذاك، أمير المؤمنين الحسن الثاني حفظه الله، وما قام به من جهاد ونضال طويل، وماخاضه من معارك فاصلة، ومواقف حازمة تجاه الاستعمار حتى استرجع المغرب مكانته وسيادته بين بلاد الإسلام، واستعاد ماع رف به طيلة عهوده من العزة والكرامة والحرية والاستقلال، وصار ينعم الطمآنينة والاستقرار.
وإذا كانت كظاهر حب الوطن والتعلق به كثيرة ومتعددة، فإن من معالمه البارزة في تاريخ الشعوب وحياة الأمم المعاصرة، ماتعيشه من أفراح ومسرات في ذكريات وطنية ومناسبات مجيدة تذكر بها للبلد وشعبه وأمته من أمجاد تاريخية وايام عظيمة مشهودة تبعث على الاعتزاز والنخوة والاعتداد والفرحة.




شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

Pages