ذات یوم أردت أن أکتب لأول مرة ” ملاك” فوجدت أنني أکتب ما یخطر ببالي
علی أوراق دفتري الداکنة. داکنة کقهوة صباحیة. أرمي الأوراق بعد أن خطی
قلمي علی خطوطها راجیاً أن یقتل المعاناة ببضع کلمات عابرة.
أنظر إلی الشباك المطل علی الحدیقة. أمي جالسة تغلف التمر.
أحدق نظراتي إلی یدیها وهي تعمل کالملاك وأحیاناً أکتبها بالمقلوب “کالم”
لکي تجعل لي مخرجا من الحالة التي أمر بها في هذه الأیام العصیبة.
أرفع یديّ للسماء وأرکض راجیاً الله أن یعید الزمن من جدید.
فأنظر إلی خلفي وأضحك علی نفسي وأصرخ ما أحلی الجنون.
” ما أحلی الجنون…”
ما یکتبه المجنون الیوم وما سیکتبه غداً وبعد غد سیکون لذلك الملاك
فقط. ذلك الوطن الذي غمرني بمشاعره الصادقة ومواقفه تجاه الأزمات
التي عصفت بنا. ذلك الملاك الذي قال ذات یوم ” سأحبك حین حییت “.
وترکت الملاك یذهب رغم کل ما کان یحمله تجاهي من مشاعر ولملمت
أوراقي، لملمتها وترکتها تحت رحمة النیران تحترق والمجنون جالس
یضحك بأعلى صوته على أبطال قصصه الذین کان صراخهم یعلو
حین کانوا یصبحون رماداً. أنظر إلی أمي من جدید. أرفع صوتي
ضاحکاً علی هؤلاء الأبطال وهم یحترقون وأهمس مع نفسي:
” لم أکتب ملاك …”
ان علي أن ألملم سنواتي العشرين وأخرج مكللا بوصية مناضل سوف يموت لكي يبقى خالدا في
ذاكرة الموتي … كان علي أن أعيد قصيدتي ألف مرة كي أعرف بأن من عليه أن يولد هو أنا لا غيري،
لن نموت ما دام هنالك شباب مثلكم .. كان علي أن أصرخ : لا ، نحن أيضا موتي ، نعرف الكثير
ونعمل القليل ، نخاف من أشباح خوفنا لكن … كان الصمت يتكلم عن كل شيء، فتح لنا مساحات
كان باستطاعتنا أن نفرغ بها كل ما كتبناه على مدى أجيال، كانت حنجرتي تتسع وتتسع
(حتي تكون بوسعة اليأس وضيق أمل المتعبين ) لكن ثمة شيء التهم نصفنا الآخر، كنا أنصاف
أرواح تجتمع لكي تنعى كمالها، مشوهين، منبوذين في مرتفعات الصمت والهدوء، لن نموت ولن
نكتمل، لكنه مات …بعد أسبوعين فوق الجسر.
أحدق في الأفق الداكن مثل شفتيه ، الجسر بدأ يأخذ شكل انحناءات أصابعه النحيلة،
النهر بدأ يزرقّ كآثار السياط على ظهر روحه، كل شيء صار يأخذ شاكلته،
لقد تقمصته الطبيعة، صار كل شيء ما عدا لا شيء …
اقرأ
لا يأمرني !
قالها بهدوء وتراجع نحو صمته، منديله أبيض، دشداشته بيضاء، طاقيته بيضاء،
كل شيء كان أبيض…. شبح الموت الجاثم على صدر الغرفة، اللوحات، ثمة عجوز تحدق
في بياض اللوحة التي تحضنها، لقد طفح البياض من الصورة، العصابة السوداء تقلصت،
شفتاها باتت باهتة كشفتي ابنها، وصورتنا نحن ؟
من رسمها ؟
آه لقد أصبح الرسام أيضا في عداد الموتى …
أصدقائي حاولوا أن يجسدوا أنفسهم في بقايا هذا الرجل، لذلك بدت وجوههم شاحبة وشفاههم داكنة،
لم أنتبه إلى العرق الذي كان يصب بصورة عكسية على وجوههم،
اقرأ !
قالها وتراجع نحو صمته .. رحت أقلب قصائدي في ذهني ..
سورة المثقفون
بلاد لم تجدها على الخارطة
بارودتي الخشبية والسراب
أغنية كارون
لا، لا أريد أن أذكره بما يجري خارج الغرفة، كنت أشعر بأنه يحتاج قصيدة تدفعه عن الموت،
قصيدة بيضاء لكي يعيد كتابة نفسه عليها، قصيدة بيضاء لكنها ليست بكفن …
العيون منطفئة على منعطف الأفق القديم
أفتح شباك الحنجرة ….
كان يبتسم صاغيا، لا أصدق، قصائدي لا تمنح الابتسامة، هذا ما يقوله أصدقائي، الأستاذ الذي بكى،
الشخص الذي قبل يدي وراح يدعي بأنني أعظم من محمد الماغوط في كتابه البدوي الأحمر …
كلهم لم يبتسموا، لماذا كان هذا الرجل يبتسم، هل يشعر بنقص في قصيدتي ؟
بصوت مرتعش كالعادة أتممت القصيدة :
متى سيولدون ؟
بعدها كان الصمت، كان الجرح المبتسم أمامي يتفتح لكي يخبرني :
عندما ألتقي بأمثالكم أشعر بأننا سوف لن نموت، لن يستطيعوا أن يوقفوا هذا النبض الأبيض
في أوراقنا ..
قالها وتراجع نحو صمته ….
أيها القارئ أرجوك ضع اصبعك على هذه الكلمات واستحلفك بمقدساتك هل تحس بدقات قلبه
الأبيض بين هذه الكلمات البيضاء؟