دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رصي الله عنه فقال تجهزفاني باعثك في سرية من يومك هذا او غدان شاء الله









سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجند

فقد كانت سرية عبد الرحمن بن عوف وجهت إلى أبعد مدى وصلت إليه الجيوش النبوية في الجزيرة العربية، ودومة الجندل قريبة من تخوم الشام، فهي أبعد ثلاثة أضعاف عن المدينة بعدها عن دمشق، وهي تقوم في قلب الصحراء العربية واسطة الصلة بين الروم في أرض الشام والعرب في الجزيرة، وسكانها من قبيلة كلب الكبرى، وقد دخلوا في النصرانية؛ نتيجة جوارهم وتأثرهم بجوار الروم النصارى.

وهذه السرية تدخل ضمن مخطط النبي -صلى الله عليه وسلم- في احتكاكه مع الامبراطوريَّة الرومانية.

أميرها:
عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-.

زمانها:

السنة السادسة من الهجرة النبوية شهر شعبان.

أحداثها:

دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن عوف –رضي الله عنه- فقال: (تجهز فإني باعثك في سرية من يومك هذا، أو من غدٍ إن شاء الله). قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت : لأدخلن فلأصلين مع النبي الغداة فلأسمعن وصيته لعبد الرحمن بن عوف. قال: فغدوت فصليت فإذا أبو بكر، وعمر، وناس من المهاجرين فيهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن: (ما خلفك عن أصحابك؟) قال ابن عمر: وقد مضى أصحابه في السحر فهم معسكرون بالجرف وكانوا سبعمائة رجلٍ، فقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك، وعليَّ ثياب سفري. قال: وعلى عبد الرحمن بن عوف عمامة قد لفَّها على رأسه. قال ابن عمر فدعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده ثم عممه بعمامة سوداء فأرخى بين كتفيه منها، ثم قال: (هكذا فاعتم يا ابن عوف فإنه أحسن وأعرف) قال: وعلى ابن عوفٍ السيف متوشحه.

ثم أمر بلالاً أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه، فحمد الله تعالى، وصلى على نفسه ثم قال: (خذه يا ابن عوف، اغزوا جميعاً في سبيل الله) وفي رواية: (اغز باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله، لا تغل، ولا تغدر، ولا تقتل وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم). فأخذ عبد الرحمن بن عوف اللواء. قال ابن هشام: فخرج إلى دومة الجندل). قال ابن عمر: ثم بسط يده فقال: (يا أيها الناس اتقوا خمساً قبل أن يحل بكم: ما نقص مكيال قوم إلا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يرجعون، وما نكث قوم عهدهم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما منع قوم الزكاة إلا أمسك الله عليهم قطر السماء، ولولا البهائم لم يسقوا، وما ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الطاعون، وما حكم قوم بغير آي القرآن إلا ألبسهم الله شيعاً، وأذاق بعضهم بأس بعض)

فخرج عبد الرحمن حتى لحق أصحابه فسار حتى قدم دومة الجندل، فلما حل بها دعاهم إلى الإسلام فمكث بها ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام. وقد كانوا أبوا أولَ ما قدم يعطونه إلا السيف، فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانياً، وكان رأسهم.

فكتب عبد الرحمن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبره بذلك وبعث رجلاً من جهينة يقال له: رافع بن مكيث، وكتب يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قد أراد أن يتزوج فيهم فكتب إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوج بنت الأصبغ تماضر. فتزوجها عبد الرحمن وبنى بها، ثم أقبل بها، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. وفي رواية أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له أولاً قبل أن يخرج: (إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم) فأسلم القوم

دروس وعبر من السرية:

- تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وشفقته عليهم، حيث ألبس عبد الرحمن بن عوف عمامته بيده، وهذا التواضع منه -صلى الله عليه وسلم- يرفع من معنويات الصحابة -رضي الله عنهم- ويدفعهم إلى بذل المزيد من الطاقة في سبيل خدمة هذا الدين؛ لأن التلاحم والمودة بين القائد وجنوده من أهم عوامل نجاح العمل وتحقيق الأهداف

- الاستعانة بالله تعالى في كل حال، ومن ذلك الجهاد الذي هو من أعظم أمور الدين، بل هو ذروة سنام الإسلام، بيَّن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (اغز باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله، لا تغل، ولا تغدر، ولا تقتل وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم). وفيه أن الجهاد إنما يكون لإعلاء كلمة الله وإحياء دينه، لا باسم الوطن ولا القومية، ولا المصالح الدنيوية، ولا غيرها.

- حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- وحكمته في اختيار القائد، تدل على سمو الدعوة وحنكة الداعي فإذا وجد ذلك نال الظفر كل من تابع ونهج نهجه، ولعل اختيار النبي –صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن إنما لأنه قد ابتلي من قبل فقد جرح في أُحُد عشرين جرحاً أدى بعضها إلى عرج في رجله من شدتها، وليكون هو من يضع ركائز العقيدة الإسلامية شمال الجزيرة العربية، ويهدي الله به كثيرًا ينال بذلك خيراً من حمر النعم.

- كان جيش عبد الرحمن بن عوف جيش مبادئ وعقيدة، فتحرك ضارباً في هذه الصحراء المترامية يحمل شرع الله إلى خلقه، وهدي رسوله إلى العالم، مستوعباً لمقاصد الجهاد وأحكامه، فالجهاد ليس باسم محمد -صلى الله عليه وسلم- فهو عبد الله ورسوله، ولا مكان لزعيم أو أمة أو قبيلة أو راية أو وطن أو جيش أو قومية بجوار هذه الراية الخفاقة في هذا الوجود راية الله تعالى: (اغزُ باسم الله) فحزب الله تعالى هو الذي يحيي هذه الصحراء الظمأى بغيث العقيدة الخالصة عقيد التوحيد، وهدفهم من هذا التحرك في سبيل الله وحده قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (162-163) سورة الأنعام، قتالهم لمن كفر بالله وليس القتال على المبدأ الجاهلي:


وأحياناً على بكرٍ أخينا

إذا ما لم نجد إلا أخانا

أما هذا الجيش فهو يمضي في الأرض قدما ليقاتل من كفر بالله

- النهي عن الغلول -وهو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها-.

- النهي عن الغدر في العهود وقتل الولدان، فحيث كانت شريعة الحرب العربية والعالمية تتيح الغل والغدر والنكث والتمثيل وقتل الوليد والمرأة إن اقتضت الظروف ذلك، جاء الإسلام ليحرم هذه المبادئ في الحرب، والتي كانت تنطلق كلها من الرغبة في السيطرة، والحرص على المجد، والتنازع للشرف والشهرة، وحيث حُدِّد الهدف في هذه الحرب هو سبيل الله تعالى لا أي سبيل آخر، فالله تعالى لا يقر الغل والغدر والنكث والتمثيل وقتل غير المقاتلين؛ لأن الله تعالى حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين العباد وأوحى لهم ألا يتظالموا، وما مهمة حرب الله في الأرض إلا إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وهذا هو عهد الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومهمة هذا الجيش هو تنفيذ هذا العهد، وتطبيق هذه السنة

- حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، وذلك لما حذرهم من الفتن، وقد ذكر لهم بعضها، وأردف في معانيها المخرج منها والدواء، وهذا من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-، كل هذا لئلا يؤدي التغافل عن الفتن إلى الوقوع فيها وتفرق الفئات من المسلمين.

- استحباب لبس العمائم، وإرخاء طرفها بين الكتفين.

- كان عبد الرحمن بن عوف مطبقاً للسنة في دعوة الكفار إلى سيدهم الأصبغ بن عمر الكلبي، ودخول الزعماء في الإسلام يعني انتشار الإسلام في قومهم

- في مبادأتهم بالدعوة دليل على أن المسلمين ليسوا متعطشين لسفك الدماء، ولم تكن تغريهم قوتهم وعددهم إلى الطمع في سلب الأموال أو إزهاق الأرواح، وإنما هدفهم الذي تهفو إليه نفوسهم إقامة شرع الله في أرضه، وعصمة نفوس ودماء وأموال خلق الله.

- حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على إزالة الحواجز والطبقية التي قد توجد في النفوس، وكذلك كسب الملوك والزعماء تدعيما للإسلام، كما صنع مع عبد الرحمن بن عوف حين أمره أن يتزوج ابنة الأصبغ؛ ليكون ذلك رابطة تمنع الانفكاك، ويزيد الوشيجة، ويعقد اللحمة بين هذا الملك المسلم، وبين دولة الإسلام في المدينة من خلال هذا الزواج، إذ يحتمل أن يكون إسلامه هرباً من السيف، فما أن يغادر الجيش المسلم أرضه ويطمئن إلى بعد الخطر الإسلامي عنه إلا ويرجع عن دينه أو يرتد، فزواج ابنته وكونها في قلب دولة الإسلام قد توقف مثل هذه الظاهرة وإن كان صادقاً في إسلامه فستفتح قلبه للإسلام أكثر، وتربط مصيره بمصير دولة الإسلام، ومصير الإسلام نفسه حين يشعر أن فلذة كبده مقيمة في العرين الإسلامي الذي أصبح يحن له حنينه لأرضه وبلده

وخلاصة القول: إن هذه السرية تنم عن بعض تعاليم الإسلام قائداً ومنهجاً وأميراً ومأموراً وهدفاً ووسيلة، كل ذلك تظهر ملامحه للمتأمل الذي يأخذ من الحدث عبرة، ومن الواقع أستاذاً ومربياً لا سيما إن أردف تلك التأملات بيسير من التحليل، فحياة النبي –صلى الله عليه وسلم- وصحابته حافلة بفوائد الحياة، وسمات القادة، ومعالم القيادة.

وكم استفاد كثير من المستشرقين المستشرفين لشخصية النبي –صلى الله عليه وسلم- فأخذوا سيرته ووعوها بأبصار قلوبهم، وأعملوها في حياتهم وربما حققوا بها انتصارات في شتى المجالات، في الوقت الذي أبناء صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منأى عن كل هذا! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إلى هنا نقف، وبهذا نكتفي وصلى الله وسلم على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه.





شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

Pages