القرآن واللاعنف
فمن أشهر هذه القوانين المهمّة التي كان لها دور طائل في تقدّم المسلمين ونجاحهم في مختلف الميادين هو قانون: اللين واللاّعنف الذي أكّدت عليه الآيات المباركة فضلا عن الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام).
ففي القرآن هناك أكثر من آية تدعو إلى اللين والسلم ونبذ العنف والبطش، ونحن نشير إليها باختصار:
آيات العفو
لا يخفى أنّ الآيات الداعية إلى العفو وعدم ردّ الإساءة بمثلها هي في نفس الوقت تدعو إلى اللاّعنف، فليس العفو إلاّ ضرب من ضروب اللاّعنف أو مصداق من مصاديقه البارزة.
قال تعالى: ((وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ))[1].
وقال سبحانه: ((إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوء فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً))[2].
وقال عز وجل: ((وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ))[3].
وقال تعالى مخاطباً رسوله الأكرم بأن يعفو عن المسلمين: ((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَْمْرِ))[4].
وقال سبحانه: ((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ))[5].
وقال تعالى: ((فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ))[6].
وقال سبحانه: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ))[7].
وقال تعالى: ((وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ))[8].
وقال سبحانه: ((خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ))[9].
آيات السلم
وهناك مصداق آخر للاّعنف الذي يؤكّد عليه الإسلام العزيز وهو السلم والسلام، حيث إنّ الإسلام هو دين السلم وشعاره السلام..
فبعد أن كان الجاهليون مولعين في الحروب وسفك الدماء جاء الإسلام وأخذ يدعوهم إلى السلم والوئام ونبذ الحروب والمشاحنات التي لا ينجم عنها سوى الدمار والفساد..
على هذا الأثر فإنّ آيات الذكر جاءت لتؤكّد على مسألة السلم والسلام، فقد قال عزّ من قائل مخاطباً عباده المؤمنين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً))[10].
وقد دُعي الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى الجنح للسلم إذا جنح إليه المشركون، فقال عزّ من قائل: ((وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ))[11].
وقال تعالى داعياً عباده المؤمنين إلى اعتزال القتال إثر جنوح المشركين إلى السلم: ((فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا))[12].
وقال عز وجل في صفات المؤمنين: ((وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً))[13].
وقال الله تعالى مخاطباً رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله): ((وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))[14].
وقد قال شيخ المفسّرين الطبرسي في تفسير هذه الآية: «وقيل: لا تستوي الخصلة الحسنة والسيّئة، فلا يستوي الصبر والغضب، والحلم والجهل، والمداراة والغلظة، والعفو والإساءة».
ثمّ بيّن سبحانه ما يلزم على الداعي من الرفق بالمدعوّ، فقال: ((إدفع بالتي هي أحسن)) خاطب النبي (صلى الله عليه وآله) فقال إدفع بحقّك باطلهم، وبحلمك جهلهم، وبعفوّك إساءتهم، ((فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم))، معناه: فإنّك إذا دفعت خصومك بلين ورفق ومداراة، صار عدوّك الذي يعاديك في الدين، بصورة وليّك القريب، فكأنّه وليّك في الدين، وحميمك في النسب»[15].
وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كراراً ومراراً يدعو أصحابه إلى الدفع بالتي هي أحسن، والإحسان إلى المسيئين، فقد وفد العلاء بن الحضرمي عليه (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، إنّ لي أهل بيت أحسن إليهم فيسيؤون، وأصلهم فيقطعون، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيم))[16].
فقال العلاء بن الحضرمي: إنّي قد قلت شعراً، هو أحسن من هذا!.
قال: «ما قلت»؟
فأنشده:
وحيِّ ذوي الأضغان تسبّ قلوبهم***تحيّتك العظمى فقد يرفع النغل
فإن أظهروا خيراً فجاز بمثله***وإن خنسوا عنك الحديث فلا تسل
فإنّ الذي يؤذيك منه سماعه***وإنّ الذي قالوا وراءك لم يقل
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إنّ من الشعر لحِكَماً، وإنّ من البيان لسحراً، وإنّ شعرك لحسن، وإنّ كتاب الله أحسن»[17].
القرآن وقدسيّة الأديان
بالإضافة إلى الآيات الشريفة المنادية إلى العفو والصفح الجميل والجنوح إلى السلم والسلام هناك آيات اُخر تدعو إلى احترام عقائد الآخرين حتّى ولو كانت فاسدة وغير صحيحة، وهذا إنّما يدلّ على حرص الإسلام على السماحة واللاّعنف في سلوك المسلمين حتّى مقابل أصحاب العقائد الضالّة التي لا قداسة لها في نظر الإسلام، نعم من واجب المسلمين السعي لهدايتهم بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ))[18].
وفي سورة الكافرين يقول تعالى: ((لَكُمْ دِينُكُمْ وَليَ دِينِ))[19].
وفي آية أخرى يدعو القرآن الكريم المؤمنين إلى عدم إيذاء الكافرين وإثارتهم عبر سبّ آلهتهم فقال سبحانه: ((وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْم))[20].
وقد جاء في الأحاديث الشريفة توضيح ذلك حيث قال أبو جعفر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية الشريفة:
«في التوراة مكتوب فيما ناجى الله جلّ وعزّ به موسى بن عمران (عليه السلام): يا موسى اكتم مكتوم سرّي في سريرتك وأظهر في علانيّتك المداراة عنّي بعدوّي وعدوّك من خلقي، ولا تستسب لي عندهم بإظهار مكتوم سرّي فتشرك عدوّك وعدوّي في سبّي»[21].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل يقول (عليه السلام): «وإيّاكم وسبّ أعداء الله حيث يسمعونكم فيسبّوا الله عدواً بغير علم»[22].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضاً قال: سئل عن قول النبي (صلى الله عليه وآله): الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء، فقال: «كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون الله فكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون، فنهى الله المؤمنين عن سبّ آلهتهم لكيلا يسبّ الكفّار إله المؤمنين فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون، فقال: ((وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فيسبوا الله عدواً بغير علم))[23]»[24].
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث طويل قال (عليه السلام) في آخره: «إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على أقسام ثلاثة: أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا فإذا سمع الناس الغلو كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم سبّونا بأسمائنا، وقد قال الله تعالى: ((وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْم))»[25].
فضلا عن ذلك كلّه فإنّ الله تعالى في أكثر من آية من آيات القرآن الحكيم أورد نفس حديث الكافرين والملحدين وجعله بين طيّات الآيات الاُخر وأمر المسلمين أن يتطهّروا إذا أرادوا مسّه حيث إنه أصبح من القرآن الكريم وهذا يؤيد احترام الإسلام للآخرين وعدم اعتباره للعنف حتّى مع مخالفيه ومناوئيه.
آيات الصفح
إلى جانب كلّ ما ذكر من الآيات المؤكّدة على نبذ العنف والبطش، فإنّ هناك آيات أخرى صريحة تحثّ المسلمين على الصفح وغضّ النظر عن إساءة الآخرين.
فمن هذه الآيات الداعية إلى الصفح الجميل هو قوله تعالى: ((وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[26].
وقال سبحانه: ((وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ))[27].
وقال تعالى: ((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ))[28].
وقال عز وجل مخاطباً الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): ((وَإِنَّ السَّاعَةَ لاَتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ))[29].
وقال سبحانه: ((فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ))[30].
وقال عز وجل: ((فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ))[31].
هذا بالإضافة إلى الآيات التي تدل على الغفران والغض عن السيئة والمحبة والإحسان وما أشبه.
فصل: اللاعنف
في الحديث الشريف
الأحاديث الشريفة واللاعنف
كما أشاد القرآن الحكيم بأهميّة اللاّعنف ومدى تأثيره في نشر الإسلام العزيز، كذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، فهم أخذوا يحثّون الناس باستمرار على العفو واللين وعدم ردّ الاساءة بمثلها.
فالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) من خلال أحاديثهم الشريفة الداعية إلى نبذ العنف وترك ردّ الاساءة للغير ربّوا المسلمين على السماحة واللين، الأمر الذي أخذ بأيديهم نحو التقدّم والرقي بعد أن كانوا أذلّة خاسئين يخافون أن يتخطفّهم الناس من حولهم.
أخبار اللاّعنف
إنّ الذي يتتبّع الأحاديث الشريفة الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) يجد أنّهم (عليهم السلام) كانوا يؤكّدون على اللاّعنف عبر أحاديثهم الشريفة وسيرتهم الطاهرة.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قام رجل يقال له همام وكان عابداً ناسكاً مجتهداً إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يخطب، فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا صفة المؤمن كأنّنا ننظر إليه.
فقال (عليه السلام): «... سهل الخليقة، لين العريكة، رصين الوفا، قليل الأذى، لا متأفّك ولا متهتّك، إن ضحك لم يخرق، وإن غضب لم ينزق، ضحكه تبسّم، واستفهامه تعلّم، ومراجعته تفهّم، كثير علمه، عظيم حلمه، كثير الرحمة، لا ينجل ولا يعجل، ولا يضجر ولا يبطر، ولا يحيف في حكمه، ولا يجور في علمه، نفسه أصلب من الصلد، ومكادحته أحلى من الشهد، لا جشع ولا هلع، ولا عنف ولا صلف، ولا متكلّف ولا متعمّق، جميل المنازعة، كريم المراجعة، عدل إن غضب، رفيق إن طلب، لا يتهوّر ولا يتهتّك ولا يتجبّر، خالص الودّ، وثيق العهد، وفيّ شفيق، وصول حليم حمول، قليل الفضول، راض عن الله عز وجل، مخالف لهواه، لا يغلظ على من دونه»[32].
وقد وصف أبو سعيد الخدري رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: «هيّن المقولة، ليّن الخلقة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بسّاماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، شديداً من غير عنف»[33].
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ الله رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»[34].
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله لبّه، واعلم أنّي ساُشير عليك برأي إن أنت عملت به تخلّصت ممّا أنت متخوّفه، واعلم أنّ خلاصك ونجاتك من حقن الدماء، وكفّ الأذى من أولياء الله، والرفق بالرعية، والتأنّي، وحسن المعاشرة، مع لين في غير ضعف، وشدّة في غير عنف»[35].
ومن وصية لأمير المؤمنين (عليه السلام) كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات قائلا له: «فان قال قائل فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو ترعده أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما آتاك من ذهب أو فضّة، فإن كانت له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه، فإنّ أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخلها دخول متسلّط عليه، ولا عنيف به، ولا تنفّرن بهيمة ولا تفزعنّها، ولا تسوءنّ صاحبها فيها»[36].
ومن عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر لمّا ولاّه على مصر قائلا: «فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً وأفضلهم حلماً، ممّن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء على الأقوياء، ممّن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف»[37].
أخبار الرفق
هناك مصداق آخر للاّعنف طالما دعت إليه الروايات الشريفة وأكّد عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) عبر مواقفهم الخالدة ألا وهو الرفق، فمن تلك الروايات الداعية إلى الرفق:
قول الإمام أبي جعفر (عليه السلام): «إنّ لكلّ شيء قفل، وقفل الإيمان الرفق»[38].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من زي الإيمان الفقه، ومن زي الفقه الحلم، ومن زي الحلم الرفق، ومن زي الرفق اللين، ومن زي اللين السهولة»[39].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا رفق به»[40].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لو كان الرفق خلقاً يرى ما كان ممّا خلق الله شيء أحسن منه»[41].
وعن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «كان ممّا أوصى به الخضر (عليه السلام) موسى بن عمران (عليه السلام) انّه قال: لا تعيّرن أحداً بذنب فإنّ أحبّ الاُمور إلى الله ثلاثة: القصد في الجدة، والعفو في المقدرة، والرفق بعباد الله، وما أرفق أحداً بأحد في الدنيا إلاّ رفق الله به يوم القيامة»[42].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما زوي الرفق عن أهل بيت إلاّ زوي عنهم الخير»[43].
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «الرفق رأس الحكمة، اللهمّ من ولي شيئاً من اُمور اُمّتي فرفق فارفق به ومن شقّ عليهم فاُشقق عليه»[44].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله رفيق يحبّ الرفق ويعين عليه»[45].
وقال أبو جعفر (عليه السلام): «من قسم له الرفق قسم له الإيمان»[46].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ في الرفق الزيادة والبركة، ومن يحرم الرفق يحرم الخير»[47].
وقال (صلى الله عليه وآله): «ما اصطحب إثنان إلاّ كان أعظمهما أجراً وأحبّهما إلى الله أرفقهما بصاحبه»[48].
أخبار العفو
علاوة على كلّ الروايات التي تنص على اللاّعنف والرفق هناك روايات اُخر تؤكّد على العفو والتزام الصفح عن الغير، وعدم الاعتماد على لغة العنف في التعامل مع الآخرين.
فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبة له: «ألا اُخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة، العفو عمّن ظلمك وتصل من قطعك والإحسان إلى من أساء إليك وإعطاء من حرمك»[49].

وعن رسول (صلى الله عليه وآله): «من عفا عن أخيه المسلم عفا الله عنه»[50].
وعن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «ما التقت فئتان قطّ إلاّ نصر أعظمهما عفواً»[51].
وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ثمّ ينادي مناد: أين أهل الفضل، قال: فيقوم عنق من الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون: وما كان فضلكم، فيقولون: كنّا نصل من قطعنا ونعطي من حرمنا ونعفو عمّن ظلمنا، قال: فيقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة»[52].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «العفو عند القدرة من سنن المرسلين والمتّقين، وتفسير العفو أن لا تلزم صاحبك فيما أجرم ظاهراً وتنسى من الأصل ما أصبت منه باطناً، وتزيد الاختبارات إحساناً، ولن يجد إلى ذلك سبيلا إلاّ من قد عفا الله عنه، وغفر له ما تقدّم وتأخّر وزيّنه بكرامته وألبسه من نور بهائه، لأنّ العفو والغفران صفتان من صفات الله عز وجل أودعهما في أسرار أصفيائه ليتخلّقوا مع الخلق بأخلاق خالقهم وجعلهم كذلك، قال الله عز وجل: ((وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[53]، من لا يعفو عن بشر مثله كيف يرجو عفو ملك جبّار»[54].
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «من عفا عن أخيه المسلم عفا الله عنه»[55].
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «ثلاثة ينزلون الجنّة حيث يشاؤون، إلى أن قال: ورجل عفا عن مظلمة»[56].
وعن سعدان، عن معتب قال: كان أبو موسى (عليه السلام) في حائط له يصرم فنظرت إلى غلام له قد أخذ كارة من تمر فرمى بها وراء الحائط فأتيته وأخذته وذهبت به إليه، فقلت: جعلت فداك إنّي وجدت هذا وهذه الكارة، فقال للغلام: يافلان.
قال: لبّيك.
قال: «أتجوع». قال: لا ياسيّدي.
قال: «فتعرى»، قال: لا ياسيّدي.
قال: «فلأيّ شيء أخذت هذه»، قال: اشتهيت ذلك.
قال: «اذهب فهي لك».
وقال: «خلّو عنه»[57].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) انّه قال لعبد بن جندب: «يابن جندب صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وسلّم على من سبّك، وأنصف من خاصمك، واعف عمّن ظلمك، كما إنّك تحبّ أن يُعفى عنك»[58].
وقد شكا رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) خدمه فقال له: «اعف عنهم تستصلح به قلوبهم»، فقال: يا رسول الله انّهم يتفاوتون في سوء الأدب، فقال: «اعف عنهم» ففعل[59].
وعن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «من بدأ بالشرّ زيّف أصله، ومن كافأ به شارك أهله»[60].
وفي الحديث: «قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمر في كلّ مجالسه بالعفو وينهى عن المُثلة»[61].
أخبار الحلم
وكما أنّ العفو يعدّ من أبرز مصاديق اللاّعنف، فإنّ هناك مصاديق أخرى لا تقلّ عنه أهميّة، منها: الحلم والدأب على غضّ الطرف عن إساءة الآخرين، ومقابلة تصرّفاتهم العنيفة بالحلم والسماحة.
ففي الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقوراً عند الهزاهز، صبوراً عند البلاء، شكوراً عند الرخاء، قانعاً بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة، إنّ العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل أمير جنوده، والرفق أخوه، والبرّ والده»[62].
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ الله عز وجل... يحبّ الحيي الحليم، العفيف المتعفّف»[63].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت وأنت أهل لما ستجزى بما قلت، ويقولان للحليم منهما: صبرت وحلمت سيغفر الله لك إن أتممت ذلك، فإن ردّ الحليم عليه ارتفع الملكان»[64].
وعن الربيع صاحب المنصور (في حديث طويل) إنّ المنصور قال للإمام الصادق (عليه السلام): حدّثني عن نفسك بحديث أتّعظ به، ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات، فقال الإمام الصادق (عليه السلام): «عليك بالحلم فإنّه ركن العلم، واملك نفسك عند أسباب القدرة، فإنّك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظاً، أو تداوى حقداً، أو يحبّ أن يذكر بالصولة، واعلم بأنّك إن عاقبت مستحقّاً لم تكن غاية ما توصف به إلاّ العدل، ولا أعرف حالا أفضل من العدل، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر»[65].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما أوصى به ابنه الحسن (عليه السلام) قال: «يا بني، العقل خليل المرء، والحلم وزيره، والرفق والده، والصبر من خير جنوده»[66].
وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: «ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: شريف من وضيع، وحليم من سفيه، ومؤمن من فاجر»[67].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ألا اُخبركم بأشبهكم بي خلقاً» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «أحسنكم خلقاً وأعظمكم حلماً، وأبرّكم بقرابته»[68].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كلمتان غريبتان فاحتملوها: كلمة من سفيه فاقبلوها، وكلمة سفه من حكيم فاغفروها»[69].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «الحلم سراج الله يستضيء به صاحبه إلى جواره، ولا يكون حليماً إلاّ المؤيّد بأنوار المعرفة والتوحيد، والحلم يدور على خمسة أوجه: أن يكون عزيزاً فيذلّ، أو يكون صادقاً فيتّهم، أو يدعو إلى الحقّ فيستخفّ به، أو أن يُؤذى بلا جرم، أو أن يطلب الحقّ ويخالفوه فيه، فإذا آتيت كلاًّ منهما حقّه فقد أصبت، وقابل السفيه بالإعراض عنه وترك الجواب تكن الناس أنصارك لأنّ من حارب السفيه فكأنّه قد وضع الحطب على النار»[70].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مثل المؤمن كمثل الأرض، منافعهم منها إذا هم عليها، ومن لا يصبر على جفاء الخلق لا يصل إلى رضى الله تعالى، لأنّ رضى الله تعالى مشوب بجفاء الخلق، إلى أن قال (صلى الله عليه وآله): بعثت للحلم مركزاً وللعمل معدناً وللصبر مسكناً...»[71].
أخبار كظم الغيظ
هذا وقد دعا الإسلام العزيز إلى مصداق آخر من مصاديق اللاّعنف وأكّد عليه بكلّ حثاثة، ألا وهو كظم الغيظ والتجاوز عن إساءة الغير مع التمكّن من ردّها.
ففي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) إنّه قال للإمام الحسين (عليه السلام): «يا بني ما الحلم؟ قال: كظم الغيظ وملك النفس»[72].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «قال موسى بن عمران: إلهي فما جزاء من صبر على أذى الناس وشتمهم فيك؟ قال: اُعينه على أهوال يوم القيامة»[73].
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «ما من جرعة أحبّ إلى الله من جرعتين: جرعة غيظ يردّها مؤمن بحلم، وجرعة جزع يردّها مؤمن بصبر»[74].
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «ليس القوي من يصرع الفرسان، إنّما القوي من يغلب غيظه ويكظمه»[75].
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من كظم غيظاً ملأ الله جوفه إيماناً، ومن أعرض عن محرّم أبدله الله بعبادة تسرّه، ومن عفا عن مظلمة أبدله الله بها عزّاً في الدنيا والآخرة»[76].
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «ثلاثة يرزقون مرافقة الأنبياء، رجل يدفع إليه قاتل وليّه فعفا عنه، ورجل عنده أمانة لو يشاء لخانها فيردّها إلى من ائتمنه عليها، ورجل كظم غيظه عن أخيه ابتغاء وجه الله»[77].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: «ما تجرّعت جرعة غيظ قطّ أحبّ إليَّ من جُرعة غيظ أعقبها صبراً، وما اُحبّ أنّ لي بذلك حمر النعم»[78].
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «ما من جرعة يجرعها عبد أحبّ إلى الله عز وجل من جرعة غيظ يردِّدها في قلبه فردّها بصبر أو ردّها بحلم»[79].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما من عبد كظم غيظاً إلاّ زاده الله عز وجل به عزّاً في الدنيا والآخرة، وقد قال الله تبارك وتعالى: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المحسنين))[80] وآتاه الله تبارك وتعالى الجنّة مكان غيظه ذلك»[81].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً إلى يوم القيامة»[82].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «نعمت الجرعة الغيظ لمن صبر عليها»[83].
أخبار اللين
إحدى الخصال المهمّة للمؤمن كما نصّت عليه الروايات الشريفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) هي اللين وترك الفظاظة والغلظة والعنف وغيرها مما تنفّر الناس عمّن يبتلى بها.
ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «ألا اُخبركم بمن تحرم عليه النار غداً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الهيّن الليّن القريب اللين السهل»[84].
وعن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: إنّ قوماً إذا ذكروا شيئاً من القرآن أو حدّثوا به صعق أحدهم حتّى يرى أنّ أحدهم لو قطّعت يداه ورجلاه لم يشعر بذلك، فقال (عليه السلام): «سبحان الله ذلك من الشيطان ما بهذا نعتوا، إنّما هو اللين والرقّة والدمعة والوجل»[85].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ المؤمن ليدرك بالحلم واللين درجة العابد المتهجّد»[86].
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «المؤمن هيّن ليّن سمح، له خُلُق حسن، والكافر فظّ غليظ، له خُلُق سيئ وفيه جبرية»[87].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ما كان جبرائيل يأتيني إلاّ قال: يا محمّد اتّق شحناء الرجال وعداوتهم»[88].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «من زرع العداوة حصد ما بذر»[89].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أتدرون من يحرم على النار؟ كلّ هيّن ليّن سهل قريب»[90].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) انّه قال للمفضّل بن عمر: «... وإن شئت أن تكرم فلِن، وإن شئت أن تهان فاخشن، ومن كرم أصله لاَن قلبه، ومن خشن عنصره غلظ كبده»[91].