فإنَّ دينَ الله عز وجل دينُ تسامحٍ وسهولةٍ وتصافحٍ وعفوٍ، ولا أدلَّ على ذلك: من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»؛ أي: السهلة، التي تصل إلى الناس بأسهل طريق وأيسره، وتزرع في قلوبهم السهولة والسلاسة والتيسير.
وفي الحديث: «أَتَدْرُونَ عَلَى مَنْ حُرِّمَتِ النَّارُ؟»، قالوا: الله ورسولُه أعلم، قال: «عَلَى الهَيِّنِ، اللِّيِّنِ، السَّهْلِ، القَرِيبِ».
فأَيُّ دينٍ أَعظمُ من هذا الدِّين: الذي يُحرِّم النارَ على مَن تَسامح وتَصافح وعفى وغفر، ولان جانبه للناس.
ولما كان موضوع التسامح بهذه الأهمية وبهذا الشأن العظيم، كانت هذه المقالة التي توضِّح مفهومَ التسامح والتصافح والعفو، وتذكر الآيات والأحاديث الدالة عليه، ثم تبين مفهوم التسامح في التعامل مع الآخرين.
* مفهوم التسامح لغة واصطلاحًا:
السَّماحة لغة:«السين، والميم، والحاء: أصلٌ يدلُّ على السلاسةِ والسهولةِ»([1]).
ويُقال أيضًا: سَمُحَ وأسمح: إذا جاد وأعطى عن كرمٍ وسخاءٍ؛ لسهولة ذلك عليه.
قال الجوهري في «الصِّحاح»: «السَّماحُ والسَّماحَةُ: الجود، وسَمَحَ به: أي جاء به، وسَمَحَ لي: أعطاني، وما كان سَمْحًا..، والمُسامحةُ: المُساهلة، وتسامحوا: تساهلوا»([2]).
السماحة اصطلاحًا:
السَّماحة في الاصطلاح تقال على وجهين:
الأوَّل:الجود عن كرمٍ وسخاءٍ([3]).
الثاني:التَّسامح مع الغير في المعاملات المختلفة، ويكون ذلك بتيسير الأمور والملاينة فيها الَّتي تتجلَّى في التَّيسير وعدمِ القهر، وسماحةِ المسلمين الَّتي تبدُو في تعاملاتهم المختلفة، سواء مع بعضهم، أو مع غيرهم من أصحاب الدِّيانات الأُخرى.
* التسامح في القرآن الكريم والسنة النبوية:
ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على التسامح والعفو، منها:
1-قوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:109].
2-قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلَّا مِنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِين) [المائدة:13].
3-قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية:14].
4-قوله تعالى: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون:1-6].
وغيرها كثير..
وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة أيضًا، منها:
1- عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: سُئل النبيُّ ×: أيُّ الأديانِ أَحبُّ إلى الله -عز وجل-؟ قال: «الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».
وفي «صحيح البخاري»: «أَحبُّ الدِّينِ إلى الله: الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».
وفي رواية عند الإمام أحمد: «إِنِّي لم أُبْعَث باليهوديةِ، ولا بالنَّصرَانِيَّةِ، ولكنِّي بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ».
قال ابن حجر: «والسَّمْحَة: السهلة؛ أي: أنها مبنيةٌ على السهولة؛ لقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُم في الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ) [الحج:78]».
2-عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى».
وفي رواية عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ سَمْحَ البَيعِ، سَمْحَ الشِّرَاءِ، سَمْحَ القَضَاءِ».
3- عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُخْبِرُكُم عَلَى مَنْ تَحْرُمُ النَّارُ؟»، قالوا: بلى، قال: «عَلَى الهَيِّنِ اللَّيِّنِ، السَّهْلِ القَرِيبِ».
إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية، وهي كثيرة جدًّا..
والذي نريد بيانه هنا في هذه المقالة:
أنَّ دينَ الإسلامِ دينُ تسامحٍ وتصافحٍ وعفوٍ في تعاملِ الناس بعضهم مع بعض، وفي تعاملهم أيضًا مع مَن يخالفونهم في دينهم ومذاهبهم ومعتقداتهم.
فدينُ الله لم يُفرِّق في حسنِ المعاملة والتسامح بين المسلمين بعضهم مع بعض، وبين من يُعاشرونهم من الأديان الأخرى.
بل حسن المعاملة وحسن المعاشرة مع أهل الأديان الأخرى هو منهج الإسلام الذي سار عليه نبينا صلى الله عليه وسلم، والذي دعت إليه النصوص الشرعية.
ولا أدلَّ على ذلك من حادثة زيارةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لذاك الغلام اليهوديِّ، الذي كان يخدمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودُه، فقعد عند رأسِه، فقال له: «أسلم»، فنظر إلى أَبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحَمْدُ لله الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ».
* التسامح في التعامل مع الآخرين من أهل الديانات الأخرى:
لقد تَعرَّض الإسلامُ والمسلمون في السنوات الأخيرة لحملةٍ ظالمةٍ من الافتراءات والتهم التي تصف الإسلام بالتعصب والإرهاب، ورفض الآخرين، وعدم قبول الرأي الآخر..
لكنَّ الوقائعَ والأحداث المروية في السيرة النبوية تلفظ هذه التهم كلها، وتُثبت عكسها.
فإن النَّاظر في الفتوحات الإسلامية التي قادها رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوقن أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أحرص الناس على الرِّفق والسماحة في تنفيذ العهودِ والمصالحات، مما جعل المعاهدين والمصالحين من أهل الديانات الأخرى يتعجبون من هذه المعاملة، ويميلون إلى الدخول في الإسلام، بسبب ما يجدونه من لين الجانب، وحسن المعاملة، ولما يجدونه أيضًا من الصدق، والوفاء بالعهد، وعدم الغدر.
وقد استقبل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وفد نصارى نجران، وسمح لهم بالإقامة في مسجده، واستقبل أيضًا وفد نصارى الحبشة، واستمع لهم، وعاملهم معاملة حسنة، وأدى الحق الذي لهم.
والذي ينبغي التنبيه عليه هنا:
أن الإسلام رسَّخ مبدأ التسامح مع الآخرين من أهل الديانات السماوية، فالديانات السماوية تستقي من مَعينٍ واحد، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى:13].
وبيَّن الإسلامُ أيضًا: «أنَّ الأنبياء إِخوَةٌ لعلَّات، أُمَّهاتهم شتَّى، ودينُهم واحد»، ولا تفاضلَ بينهم مِنْ حيث الرسالةُ، ومن حيث الإيمانُ بهم، فقال تعالى: (قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون) [البقرة:136].
وبيَّن الإسلام أيضًا للمسلمين المنهجَ الذي يسيرون عليه في مجادلتهم مع أهل الديانات الأخرى، فقال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت:46].
كل هذه القواعد والأصول والأدلة تقرر أن دين الإسلام دين تواصل وتسامح مع غيره من أهل الديانات الأخرى.
دين رحمة ورأفة للناس جميعًا، حتى مع من يخالفونهم من أهل الديانات الأخرى.