ففي هذه الجولة سنكون في صحبة الرَّجل الثَّاني في الإسلام، بعد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وبعد أبي بكر الصِّديق، هذا الرَّجل الَّذي قرن اسمه بالعدل والحقِّ، والقوَّة والشَّجاعة، والزُّهد والورع، والتَّقوى والمراقبة، والخوف من الله، والبكاء من خَشيته، والفراسة والذَّكاء، ودقَّة النَّظر والبصيرة، ويقظة الضَّمير، وقهر هوى الَّنفس...
إنَّه الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
القرشي العدوي، كنَّاه النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بأبي حفص.
قال ابن الجوزي: "واعلم أنَّ عمر -رضي الله عنه- ممَّن سبقت له الحسنى، وكان مقدمًا في الجاهلية والإسلام" (التَّبصرة 1/415).
وقال ابن كثير: "وكان متواضعاً في الله خشن العيش، خشن المطعم، شديدًا في ذات الله، يرقع الثَّوب بالأديم، ويحمل القربة على كتفيه مع عظم هيبته، ويركب الحمار عريًا، والبعير مخطومًا بالليف، وكان قليل الضَّحك لا يمازح أحدًا. وكان نقش خاتمه: كفى بالموت واعظاً يا عمر..".
إسلامه -رضي الله عنه-
أسلم عمر -رضي الله عنه- في السَّنة السَّادسة من البعثة النَّبويَّة، وكان عمره سبعًا وعشرين سنةً، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلّها مع النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وخرج في عدَّة سرايا، وكان أميرًا على بعضها، وكان ممَّن ثبت يوم أحد مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وهو أحد السَّابقين الأولين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنَّة، وأحد الخلفاء الرَّاشدين، وأحد أصهار النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وأحد كبار علماء الصَّحابة وزهادهم.
اعتبر إسلامه -رضي الله عنه- بمثابة بداية مرحلة جديدة من مراحل الدَّعوة، ولذلك قالابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما زلنا أعزةً منذ أسلم عمر".
هجرته -رضي الله عنه-
وكان -رضي الله عنه- قويًّا يوم هجرته، فقد قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ما علمت أحدًا من المهاجرين إلَّا هاجر مختفيًّا إلا عمر بن الخطاب، فإنَّه لما همَّ بالهجرة تقلَّد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى في يده أسهمًا، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعًا متمكنًا، ثمَّ أتى المقام فصلَّى ركعتين، ثمَّ وقف على الحلق واحدةً واحدةً، وقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمُّه، ويوتم ولده، ويرمَّل زوجه، فليلقني وراء هذا الوادي. قال علي: فما تبعه أحدٌ إلا قوم من المستضعفين علَّمهم وأرشدهم ومضى لوجهه .
في فضائله ومناقبه -رضي الله عنه-
رجلٌ من أهل الجنَّة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «دخلت الجنَّة فرأيت فيها دارًا أو قصرًا فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخل، فذكرت غيرتك فبكى عمر وقال: أي رسول الله! أو عليك يغار ؟» [متفقٌ عليه واللفظ لمسلم 2394].
علم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «بينا أنا نائم، إذ رأيت قدحًا أتيت به، فيه لبن، فشربت منه حتَّى إنِّي لأرى الرّي يجري في أظفاري ثمَّ أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا : فما أولت ذلك؟ يا رسول الله! قال: العلم» [متفقٌ عليه واللفظ لمسلم 2391].
دين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- واستقامته
عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: قال النَّبيٌّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-:«والَّذي نفسي بيده، ما لقيك الشَّيطان قط سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجّك» [متفقٌ عليه].
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول : «بينما أنا نائمٌ، رأيت النَّاس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثَّدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرَّ عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ما أولت يا رسول الله؟ قال: الدِّين» [متفقٌ عليه].
فراسة عمر -رضي الله عنه-
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لقد كان فيما كان قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمَّتي أحدٌ فإنَّه عمر» [رواه البخاري 3689].
علم منزلته -رضي الله عنه-
وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «لو كان من بعدي نبي؛ لكان عمر بن الخطاب» [صحَّحه الألباني 5992 في تخريج مشكاة المصابيح].
صدقه -رضي الله عنه-
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عنِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «إنَّ الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه» [رواه التِّرمذي 3682 وصحَّحه الألباني].
شدَّة اتباعه -رضي الله عنه-
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «أرحم أمَّتي بأمَّتي أبو بكر وأشدُّهم في دين الله عمر» [رواه ابن ماجه 125 وصحَّحه الألباني].
وعن حذيفة عنِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» [رواه التِّرمذي 3662 وصحَّحه الألباني].
موته -رضي الله عنه- شهيدًا
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: صعد النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أحدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله وقال: «اثبت أحد فإنَّما عليك نبيٌّ وصديقٌ وشهيدان» [رواه البخاري 3675] والشَّهيدان هما عمر وعثمان -رضي الله عنهما-.
ثناء الصَّحابة وأهل البيت والسَّلف عليه -رضي الله عنه-
- قال أبو بكر الصِّديق -رضي الله عنه-: "ما على ظهر الأرض رجلٌ أحبَّ إليَّ من عمر".
- وقيل له في مرضه: ماذا تقول لربِّك وقد وليت عمر؟ قال: أقول له: "وليت عليهم خيرهم".
- وقال علي -رضي الله عنه-: "إذا ذكر الصَّالحون فحيهلًا بعمر، ما كنا نبعد أن السَّكينة تنطق على لسان عمر".
- وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "عمر أعلمنا بكتاب الله، وأفهمنا في دين الله".
- وقال جعفر الصَّادق -رضي الله عنه-: "أنا بريءٌ ممَّن ذكر أبا بكر وعمر إلا بخيرٍ".
- وقال شريك: "ليس يقدّم عليًّا على أبي بكر وعمر أحدٌ فيه خير".
- وقال أبو أسامة: "أتدرون من أبو بكر وعمر؟ هما أبو الإسلام وأمِّه" .
أولياته -رضي الله عنه-
- هو أوَّل من دُعي أمير المؤمنين.
- وأوَّل من كتب التَّاريخ الهجري.
- وأوَّل من جمع النَّاس على التَّراويح.
- وأول من عسَّ (طاف بالليل؛ ليحرس النَّاس ويكشف أهل الرِّيبة) بالليل في المدينة.
- وأوَّل من فتح الفتوح ومصر الأمصار، وجند الأجناد، ووضع الخراج، ودون الدَّواوين، وفرض الأعطية، واستقضى القضاة.
- وأوَّل من ضرب في الخمر ثمانين.
- وأول من اتخذ الدُّرة وأدب بها، حتَّى قيل بعده: "لدرة عمر أهيب من سيوفكم".
- وهو الَّذي وضع القناديل في المساجد في رمضان، حتَّى قال فيه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "نوَّر الله على عمر في قبره كما نوَّر علينا في مساجدنا".
- قال ابن سعد: "اتخذ عمر -رضي الله عنه- دار الدَّقيق، فجعل فيها الدَّقيق والسُّويق والتَّمر والزَّبيب وما يحتاج إليه: يعين به المنقطع. ووضع فيما بين مكة والمدينة بالطَّريق ما يصلح من ينقطع به".
- وزاد في المسجد النَّبوي ووسَّعه وفرشه بالحصباء.
- وهو الَّذي أخرج اليهود من الحجاز إلى الشَّام، وأخرج أهل نجران إلى الكوفة (تاريخ الخلفاء ص128).
وقد اتسعت الفتوحات في عهده ففتحت مصر ودمشق والأردن والقدس وطرابلس وأجزاء من العراق وإيران وغيرها.
ثناء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-
عن ابن عباس -رضي الله عنه قال-: "وضع عمر على سريره -بعد طعنه- فتكنَّفه النَّاس يدعون ويصلُّون قبل أن يرفع، فلم يرعني إلا رجلٌ آخذ بمنكبي، فإذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فترحم على عمر وقال: ما خلّفت أحدًا أحبّ إليَّ أن ألقي الله بمثل عمله منك. وايمُ الله إن كنت لأظنَّ أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أنّي كثيرًا أسمع النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «ذهبتُ أنا وأبو بكر وعمر، ودخلتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر» [رواه البخاري 3685].
وممَّا يدلُّ كذلك على محبَّة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- له وتعظيمه إيَّاه أنَّه زوَّجه ابنته أم كلثوم، وهي ابنة فاطمة بنت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فخطبها من علي -رضي الله عنه-، فزوجه إيَّاها، فأصدقها عمر أربعين ألفًا، فولدت له زيدًا ورقية -رضي الله عنهم أجمعين-.
زهده وعدله -رضي الله عنه-
قال ابن الجوزي: "لما ولي الخلافة شمر عن ساق جدّه، فكظم على هوى نفسه، وحمل في الله فوق طوقه".
متيقظ العزمات مذ نهضت به***عزماته نحو العلى لم يقعد
ويكاد من نور البصيرة أن يرى***في يومه فعل العواقب في غدٍ
نبذ الدُّنيا من وراء ظهره، فتخفف من الأثقال لأجل السّباق.
كان يخطب وفي إزاره ثنتا عشرة رقعةً، كفَّ كفَّه عن المال زاهدًا فيه حتَّى أملق أهله.
وفي عام الرمادة أكل الزَّيت حتَّى قرقر بطنه، فقال: "قرقر أو لا تقرقر، فوالله لا تذوق السَّمن حتَّى يشبع أطفال المسلمين ."
يا من رأى عمراً تكسوه بردته***والزَّيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقًا***من بأسه وملوك الروم تخشاه
خوفه من الله -رضي الله عنه-
كان في وجهه -رضي الله عنه- خطان أسودان من البكاء.
وكان يمرُّ بالآية من ورده بالليل فيبكي حتَّى يسقط، ويبقى في البيت حتَّى يعاد للمرض.
وكان يقول عند موته: "الويل لعمر إن لم يغفر له".
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت عمر بن الخطاب يومًا وقد خرجت معه حتَّى دخل حائطًا، فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: "عمر ابن الخطاب أمير المؤمنين! بخ والله بني الخطاب، لتتقين الله أو ليعذبنك".
شفقته على الرَّعية -رضي الله عنه-
عن الأوزاعي قال: "خرج عمر -رضي الله عنه- في سواد الليل، فرآه طلحة -رضي الله عنه-، فذهب عمر فدخل بيتًا ثمَّ دخل بيتًا آخر، فلمَّا أصبح طلحة ذهب إلى هذا البيت، وإذا بعجوز عمياء مقعدة. فقال لها: ما بال هذا الرَّجل يأتيك؟ قالت: إنَّه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عنِّي الأذى. فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع؟!" (مناقب عمر بن الخطاب، لابن الجوزي ص:68).
عبادته واجتهاده -رضي الله عنه-
عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يحب الصَّلاة في كبد الليل -يعني وسطه-.
وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: "ما مات عمر -رضوان الله عليه- حتَّى اسود من الصَّوم".
وكان يقرأ في صلاة الصبح سورة يوسف، فسمع بكاؤه من آخر الصُّفوف وهو يقرأ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] (مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ص168-169).
ومات شهيداً -رضي الله عنه-
قال ابن كثير: "إنَّ عمر رضي الله عنه لمَّا فرغ من الحج سنة ثلاث وعشرين وكان معه أمهات المؤمنين، ونزل بالأبطح، دعا الله -عزَّ وجلَّ- وشكا إليه أنَّه قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وانتشرت رعيته، وخاف من التَّقصير، وسأل الله أن يقبضه إليه، وأن يمنَّ عليه بالشَّهادة في بلد النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، كما ثبت في الصَّحيح أنَّه كان يقول: "اللهمَّ إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتًا في بلد رسولك"، فاستجاب الله له هذا الدُّعاء، وجمع له بين هذين الأمرين؛ الشَّهادة في المدينة النَّبويَّة، وهذا عزيزٌ جدًّا، ولكن الله لطيفٌ بما يشاء -تبارك وتعالى- .
وفي صبيحة الأربعاء من ذي الحجة، طُعن وهو قائمٌ يصلِّي في المحراب، طعنه أبو لؤلؤة فيروز المجوسي الأصل، بخنجر ذات طرفين، فضربه ثلاث ضرباتٍ، وقيل: ست ضرباتٍ، إحداهنَّ تحت سرته فخر من قامته، ورجع العلج بخنجره لا يمرُّ بأحد إلا ضربه، حتى ضرب ثلاثة عشر رجلًا، مات منهم ستَّة، فألقى عليه عبد الله بن عوف برنسًا، فانتحر نفسه لعنة الله.
وحمل عمر إلى منزله والدَّم يسيل من جرحه، وذلك قبل طلوع الشَّمس، فجعل يفيق ثمَّ يغمى عليه، ثمَّ يذكرونه الصَّلاة فيفيق، ويقول: "نعم، لا حظَّ في الإسلام لمن تركها(البداية والنِّهاية 7/137-138).
ولمَّا حضر غشي عليه ورأسه بالأرض، فوضع ابنه عبد الله رأسه في حجره، فلمَّا أفاق قال له: ضع رأسي على الأرض، ففعل، فمسح خديه بالتَّراب ثمَّ قال: ويل لعمر.. ويل لعمر.. ويل لأمِّ عمر إن لم يغفر الله لعمر!".
فلمَّا مات بكى سعيد بن زيد فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: على الإسلام أبكي، إنَّه بموت عمر ثلم الإسلام ثلمة لا ترتق إلى يوم القيامة (طبقات ابن سعد 3/284).
رضي الله عن عمر بن الخطاب وأرضاه، اللهمَّ إنَّا نشهدك على حبِّه وحبِّ جميع الخلفاء الرَّاشدين وسائر صحابه نبيِّك أجمعين، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.