‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏الأسس المنطقية لفلسفة الإنسانيين الفلسفة في ضوء التغيّرات المعرفية فلسفة الإنسانيين





 ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏ 





لم تعد كلمة "الفلسفة " على ما كانت عليه من معنى يتكرر بطريقة ببغائية يعرفها الجميع

على أنها " حب الحكمة " وكأنها لا تتطوّر ولا تتغيّر . بينما الفلسفة التي يفهمها الإنسان المعاصر وبطريقته العفوية والعملية على أنها حب الحياةالكريمة والسعي إلى اللقمة والتطلعات المشتركة لجميع البشر في مختلف الشعوب والبلدان ، لتحقيق الحياة الكريمة والآمنة لكل إنسان . ـ

ولم تعد الفلسفة محصورة في فريق من البشر يحتكر عملية التفكير وإنتاج الأفكار للعقول الأخرى .ـ

ولم تعد الفلسفة تقتصر على البحث النظري حول قضايا يحددها صاحب الرؤية الفلسفية بحسب هواجسه الشخصية والتي يفترضها بحسب الفرضيات الذاتية حول أصل الكون ونشأة الوجود والمادّة والروح والتي لم يعد لها أي اهتمام في دائرة اهتمامات المليارات من البشر ـ

ولم يعد البحث الفلسفي يقتصر على طرح الأسئلة والإجابة عليها ومعالجتها بالمهارات اللغوية لبناء المنطق الفلسفيّ من المصطلحات المفبركة والمفاهيم الذهنية التي تتخذ من الهروب إلى العوالم اللا مرئية من ذهنية وغيبية وأسطورية ، أساساًً لها لكي تصبح بعيدة عن الواقع وعن حاجة الإنسان المعاصر إلى فلسفة تساعده في تحديد مواقفه من الواقع بل وعن إمكانية المشاركة فيها من قبل الناس على اختلاف معتقداتهم وأديانهم وعلومهم ومعارفهم . ـ

لقد أصبحت الفلسفة هي الأسئلة التي يطرحها كل إنسان حول أمور حياته وحقوقه وحاجاته ، وعلى حسب المعايير الحياتية التي يعيشها ويستخدمها في منطق الأمور العملية والتي لا يمكن تقييمها نقدها إلاّ بمنطق العلم وبحقائقه العلمية والعملية المؤكّدة في القوانين الكونية وفي حقائق الحياة التي يعيشها جميع البشر ... إن الواقع المعاصر وما تتوافر فيه من حريات ومعلومات وإمكانيات للوعي والمعرفة ، جعل من كل إنسان فيلسوفاً له نظرته إلى الأمور ، وفي نفس الوقت طرح على مختلف احتمالات الإنسان نفس القضايا المستركة التي تجمع بين مختلف العقول وذوي العقول حول نفس القضايا والهواجس التي تجمع بين مختلف الناس على سائر الكوكب بأسره في مختلف البلدان والمجتمعات . ماذا نأكل وكيف ؟ وماذا نشتري، ومن أين لنا ما يكفي من المال لكي نعيش؟ في أية مدرسة نعلّم أولادنا؟ من أين نأتي بالمال لدفع الأقساط ؟ ماذا سنفعل إن أصابنا مرض؟ من أين سوف ندبّر تكاليف الإستشفاء ؟ لمَ ترتفع الأسعار ؟ من أين تأتينا المآسي والبلاوي الإقتصادية والسياسية ؟ وأين يذهب المال العام؟ ولمَ وكيف تتجمّع الثروة في جيوب فئة قليلة وينتشر الفقر في أغلب فئات الشعب؟ لماذا تضيق الحياة على خناق الإنسان؟ وتزداد صعوبة وتعقيداً ؟ من المسؤول عمّا يحصل؟ الشعب الغافل الجاهل ؟ ام الحاكم المتواطئ مع أطراف خارجيّة وداخليّة؟ ما هو دور ومسؤوليته ، وما هو دور النظام الحاكم ومؤسساته في حياة الناس وفي التأثير على مصائرهم ؟ إلخ...ـ

وكيف العمل من أجل تغيير الواقع وبناء دولة المؤسسات والقانون والسلطة العامّة الحيادية بين جميع فئات الشعب ومكوناته ، للحفاظ على استمرارية السلم وعلى دورة الحياة بأمن وأمان وللسهر على تأمين المتطلبات الأساسية للحياة الإنسانيةالكريمة في الشبع والمعرفة والسلام . ـ

من خلال تأمين العلم والعمل للجميع لتوفير فرصة الحياة الكريمة للجميع ، على أساس المساواة المطلقة في القيمة الإنسانية والكرامة الإنسانية والحقوق الإنسانية لجميع المواطنين في كل وطن ولكل إنسان في كل شعب ولكل شعب في كل وطن على كامل الكوكب بأسره ...ـ

هذه القضايا التي التي ينتغل فيها عقل الإنسان المعاصر. وهذه الهواجس التي تحتل العقل المعاصر ، هي فلسفة كل الناس. إنها فلسفة الإنسانيين.ـ

فلسفة الإنسانيين التي تتعامل مع القضايا الإنسانية التي تمتد على كامل مساحة الحياة بما فيها من مواد وخيرات وإمكانيات وأحداث وقضايا ومشاكل ومن عليها من مختلف احتمالات الإنسان في مختلف ظروفه وأحواله وبيئاته ومجتمعاته وما فيها من ثقافات ومعتقدات وعادات وأديان وآداب وفلسفات وعلوم وتقنيات ... ـ

فإن المنطق الإنساني يتعامل مع القضايا الإنسانية بمعايير العلم والتجربة العملية وبناء على معايير الحياة الشخصية لكل إنسان بعيداً عن المنطق الغيبي وما يتصل به من معتقدات تتجاوز حدود العقل والحياة إلى ما وراء الحياة وليس بإمكان اي عقل أن يخوض فيها أو أن يستطيع البحث فيها أو معاملة الآخرين على أساسها . ـ

فإن المنطق الإنساني يتعامل مع أتباع المعتقدات الغيبية على أساس احترام حق الإنسان وحريته في الإعتقاد ، ولكن دائرة العمل الإنساني وتبادل العلاقات الإنسانية تبقى محصورة في دائرة فعاليّة العقل والإرادة والمسؤولية البشريّة في نطاق الحياة المشتركة لأطراف العلاقات الإنسانية في واقع الحياة المشتركة بين جميع احتمالات الإنسان . ـ

وكذلك فإن المنطق الإنساني لا يستخدم المفاهيم والتفسيرات الغيبية والقصص الأسطورية والملاحم واللتفسير الظواهر التي تحصل في واقع الحياة . فإن لكل كلمة من كلمات المنطق الإنساني دلالته الواقعيّة والقابلة للفهم على ضوء المعارف العلمية والخبرات الشخصية والتجربة العملية في واقع الحياة بناء على منطق الواقع نفسه والذي لا يمكن تفسيره أو التعامل معه إلا ّ بمنطق العلم وعلى أساس الحق العلمي وحده وحقائقه العلمية المستمدّة من المنطق الإلهي في الكون ، كمرجعية محايدة ومشتركة بين جميع العقول على اختلاف مكوناتها الفكرية والثقافية والإيمانية والإعتقاديّة على مستوى الكوكب بأسره . ـ





‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏ في ظل توفر وسائل وأساليب إنتاج المعرفة ، بالمعنى العلمي ، فقد توفرت أيضا مصادر وخلاصات معرفية غزيرة بل ومتدفقة في تعمق وتوسع وانتشار ، بشكل لم يشهد له تاريخ البشرية مثيلا. وكانت نتيجة ذلك أن ظهر العقل المعاصر الذي يعتبر هو أيضا ظاهرة جديدة لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري. إن هذه المعطيات المعاصرة الجديدة على مستوى العمل الفكري وأدواته وموضوعاته والعنصر البشري الفاعل الأساسي فيه، أحدثت تغييرات حاسمة في الكثير من المفاهيم والمقولات الأولية التي تدخل في صلب عملية وأدوات وموضوعات وحدود التفكير الذي أصبح ميزة بشرية عامة ومشتركة بين جميع أبناء المجتمعات التي تدخل في سياق شبكة التواصل المعرفي مع العالم ، من خلال التعليم والإعلام والتفاعل الحضاري مع المجتمع الدولي . بل لقد أصبح التفكير واحداً من الحقوق الأساسية للإنسان، ومقياساً للرقي الحضاري، من خلاله يتم التمييز بين المجتمعات الإستبداية المتخلفة، والليبرالية الحقيقية. إن هذه التغييرات طالت الوظائف والادوار للمؤسسات التي كانت في المراحل السابقة لعصرنا هذا ، ذات موقع أكثر تأثيرا في عملية التفكير وفي تحديد إطاره وإتجاهاته وأقصد بذلك المؤسسات التي كانت تشكل مصادر المعرفة دون أن يكون لديها أدوات موثوقة للتأكد من صحة وصلاحية تلك المعرفة للتأثير في تغيير الواقع ومعرفة قوانينه الموضوعية. تلك المؤسسات التي كانت تعتبر مصدر المعرفة والتي تحدد الصواب والخطأ بدون أية ضوابط ومقاييس موضوعية، وكان على الناس أن يتقبلوا ويأتمروا بتوجيهاتها تحت طائلة العقوبات . فعلى سبيل المثال ، في المجتمع اليوناني القديم حيث ظهرت الفلسفة التي كان لها تأثير كبير على المجتمعات البشرية ومازلت والتي مازالت إلى يومنا هذا، فقد كان على الناس أن يتعاملوا مع ذلك النوع من المعرفة المقدّسة، بالإيمان والتسليم والقبول حيث كان يحرّم النقاش والنقد والإعتراض لئلاّ تُوجّه للإنسان تهمة تسفيه الآلهة أو السخرية منها. وخاصة وأن تلك المؤسسات كانت تربط مقولاتها المعرفية بالمراجع المقدسة. في ذلك الوقت كانت الفلسفة تبدو عملاً بطوليّا بل مغامرة فكرية غير مأمونة العواقب . ولذلك جاء تعريف الفلسفة ليشكل نقطة التقاء بين متناقضين لم يكن بينهما لقاء ؛ قيود الدين وحرية العقل. فكانت الحكمة، إنسجاما مع المعنى الديني لها،"كلمة الرب" كما ظهر فيما بعد من خلال كتب الإنجيل، والتي لا يجب أن تتعارض معها كلمة الفيلسوف صاحب العقل. والتي أيدتها فيما بعد مقولة إسلامية "الحكمة ضالة المؤمن..." لكي تكون الحكمة ضالة العقل في مراحل غياب المعرفة العلمية. وإذا كان يُقصد بالحكمة على أنها الكلمة التي تحسم الأمر وتريح النفس من خلال إجابة على سؤال أو التوصل إلى حل لمشكلة ، فإن هذه الكلمة في عصرنا الحالي أصبحت تحتاج إلى بُعد معرفي بحقائق الأمور وبمنطق لا يتضارب مع موضوعية الواقع وقوانينه المستقلة عن ذاتية الإنسان، وذات قيمة علمية وعملية تجعلها قادرة على مخاطبة العقل المعاصر. لقد كانت الكلمة تأخذ شرعيتها من المصدر المنسوبة إليه. فهي صحيحة ويجب إتباعها إذا كانت من الآلهة ، وهي مهمة وذات شان إذا كانت من فيلسوف شهير أو شاعر معروف.


اليوم فإن شرعية الكلمة تأتي من مقدار الصواب فيها ومن مقدار قربها من الحقيقة، وتوافقها مع الحق، وضرورتها لتحقيق الخير ، بغض النظر عن مصدرها.

فإن زمن المعارف الغيبية التي كان على الإنسان أن يتقبّلها بدون تفكير ولا تحليل ولا اقتناع ، قد ولّى. وإن ألاعيب خدّام السياسة و المتلاعبين بعقول الناس بتحريف كل اكتشاف علمي وتحويله إلى مادة للترويج الروحاني من أجل الحفاظ على التأثير الغيبي والإنشائي والعاطفي على الناس ، لمنع التوافق بين العقول ، ولتعطيل فاعلية المنطق العلمي والعملي في التقريب بين عقول البشر على اختلاف معتقداتهم وخلفياتهم الثقافية ، قد انفضح على المستوى العالمي مع أنه مازال يساهم في بعض مناطق العالم بتعميق الهوّة بين أصحاب الخيارات الإيمانية والإعتقادية المتنوّعة، وخاصة وأن جميع المعتقدات مهما اختلفت في بعض التفاصيل إلاّ أنها تتفق على القضايا الإنسانية العامّة .

إلاّ أن الطابع العام للعقل المعاصر بات واضحاً في تعامله مع كل ما تثبته التجربة العملية على أساس المعرفة العلمية فهو صواب ولا جدال فيه. وإن الكلمة الصحيحة المستندة على المعرفة السليمة والحقيقة العملية لا تتعارض مع كلام الله بالنسبة لرجل الدين ولا تحتاج إلى تزكية دينية بالنسبة للإنسان المتعلم، ويجتمع حولها الديني والعلمي والمؤمنون على اختلاف دياناتهم ، بل ويتوافق عليها المؤمن وغير المؤمن، وأهل البلدان على اختلاف بلدانهم وأبناء المجتمعات في مختلف مجتمعاتهم. بذلك فإن الحكمة أصبحت تعني الكلمة التي توفـّق بين العقول مهما تباعدت آراؤها وتقرّب بين الجماعات مهما اختلفت معتقداتها . بدون المشروعية المعرفية العلمية التي اصبحت تشكل مرجعية العقل المعاصر، فقد كانت الفلسفة من قبل ، أشبه بحفلة زجل ، يتبارى فيها أصحاب الآراء والأفكار ، بحيث يبدو أن كلاُّ منهم على حق بالنسبة لنفسه. فإذا واجهه من يعترض وينتقد ، سيجد نفسه عاجزاُ عن الدفاع عن وجهة نظره وإقناع الآخرين بها ، مالم يكونوا من الأتباع له أو من المؤمنين به. ولعل خير مثال على ذلك هو اختلاف فلاسفة اليونان أنفسهم حول نشاة الكون. حيث تباينت الآراء بين الأستاذ وتلميذه ، وحيث تعددت نظرياتهم الفلسفية بتعدد أمزجتهم وتصوراتهم وتجاربهم الذاتية ومواقعهم ومصالحهم 




الطبقية، دون أن يكون لديهم ضوابط موضوعية وتطبيقات تقنية يحتكمون إليها ، سوى ما توافرت لديهم من مهارات كلامية تتراوح بين السفسطة وبين منطق حديث العهد يقوم على المحاكمة العقلية والمقاييس التي لا تتعدى مفاهيم اللغة وضبط معايير دلالاتها. وإن كانوا جديرين باحترامنا حيث بدأوا بتشغيل عجلة العقل ، إلاّ أنه لا بد من تقييم تلك المرحلة على أنها طفولة الفلسفة. حيث حاولوا معرفة أصل الكون بأساليب لم تسمح لهم بالذهاب أبعد مما تراه أعينهم. فمنهم من قال أنه من نار ، ومنهم من قال من ماء، وآخر من هواء ، وآخر من تراب ، إلخ... ولقد اعتمد كل منهم على إحساسه الشخصي ومهارته في صياغة نظام لغوي كان يبدو منطقيا إلى أن يأتي من يعارضه بمنطق آخر ، في غياب مراجع ومصادر و مقاييس موضوعية حيادية يمكن الرجوع إليها ، حيث كان كل فيلسوف مسلحا برؤية ذاتية وبإيحاءات محسوسة من الواقع الموضوعي تدفعه إلى وجهة نظر تختلف عن التي تشكلت لدى سواه. إن أولئك الفلاسفة الذين وضعوا منطلقات التفكير الفلسفي التقليدي ومفاهيمه لم يكن متوفرا لديهم من المعارف سوى ما كان يمكن القول عنه أنه بداية المعرفة التي تولّد الشك، أكثر مما تؤدي إلى اليقين. حتى أن أرسطو وهو الذي يُعتبرأشهرهم قال كلمته الشهيرة :"أعرف شيئا واحداُ هو أنني لا أعرف شيئاُ" هذا الكلام لا يدل على التواضع ونكران الذات كما فهمه البعض ممن لم يتعمّق في فهم الأزمة المعرفية للمثقفين في ذلك الوقت، وإنما هو كلام واضح الدلالة على انعدام اليقين وعدم الإستقرار إلى المعارف التي كانت قاصرة عن إدراك الحقائق وإثباتها للعقول المعترضة والإعتماد عليها، وإلى عدم ثبات العقل على يقين يرتاح إليه في سعيه إلى أفق معرفي جديد. أما في عصرنا الحالي فبوسع أي إنسان أن يقول وبكل ثقة بالنفس " أعرف الكثير من الأشياء التي لم يكن يعرفها أرسطو "!


لقد كانت الفلسفة من قبل تهدف إلى الحكمة إستنادا إلى معارف صادرة من معطيات الحواس، وخليط من تراث الأساطير المتوارثة والتصوّرات الذاتية عن عالم موضوعي يلفه الغموض والجهل. أما الحكمة في عصرنا الحالي، أصبحت تستند إلى المعرفة المؤكدة علميّا لتكون لها منطلقات ذات تأثير مقنع على أسس ومعطيات صحيحة. إن وجود معارف يمكن الوثوق بها ، من خلال تطبيقاتها العملية وتجلياتها التقنية من خلال الآلات التي حازت على ثقة ورضى الإنسان المعاصر بعد مخاض عسير بين مؤيد ومعارض ومشكك إلى أن انتهى قرن من المخاض من العداء بين العلم والدين . إلى أن ظهر جيل من رجال الدين المتعلمين القادرين على فهم العلم بل والذين استطاعوا أن يوفـّقوا بين منطق الدين ومنطق العلم ، وهو ما لم يتحقق في القرون الوسطى بسبب عدم وجود منطق علمي يمكن الوثوق به ، مما أدى إلى المواجهة التي كان ينقصها قيم الحضارة المعاصرة التي تدعو إلى حرية الفكر وتنوع الرأي . إن المنطق العلمي أعطى للعقل قيمة أصبحت تشكل مرجعية قانونية وسياسية يُعتمد عليها في تقرير مصير الامم والشعوب. وأصبح العقل نافذة هامة للسياسيين إلى مواقع الحكم من خلال الإختيار الحر للمحكومين. لقد أصبح العقل متصلا بالإرادة والحرية ، وأصبحت تنميته وتغذيته بالمعارف والعلوم ضرورة لا مفر منها للدول والمؤسسات من أجل بناء المجتمعات واستمرايتها وتطوير مقوماتها الحضارية. وأصبح العقل هو الهدف الذي يتسابق إليه مختلف الجهات السياسية والمؤسسات التجارية والإقتصادية والإعلامية والتيارات السياسية والفكرية والدينية والعلمانية إلخ... الجميع أصبح يضفي على إنتاجه الفكري عناصر "الإغراء العقلي" ويدّعي المنطق العلمي، لكي يقنع أكبر قدر من العقول أملاً في التأثير على أصحابها ، إبتداء من الدعايات والترويج للمنتوجات الصناعية ، وانتهاء بالمرشحين للمقاعد النيابية والرؤساء والملوك . كل يسعى إلى التأثير على الإنسان من خلال عقله. وهذا ما جعل الإنسان المعاصر يعيش في حالة تـَرَف معرفي تجاوز حد التخمة بل إنه مغمور بفيضانات من المعطيات المعرفية التي تضعه أمام خيارات ومعطيات تدعوه إلى اتخاذ الموقف وتحديد الموقع وتنفيذ المطلوب . وعود وإغراءات لا حصر لها كلها تتوجه إلى عقله بأشكال متعددة ومختلفة من المنطق، كل منها يبدو صحيحاَ بقدر ما يتقبله عقل هذا الإنسان أو ذاك. وأمام هذا التنافس والتسابق للوصول إلى عقل الإنسان والإستيلاء عليه ، ومن خلاله ليصل إلى مراكز القرار وعلى الثروات والسلطات، تبرز الحاجة لمنطق يكون أشبه بزورق نجاة في خضم هذا الكم الهائل من المعطيات المعرفية، لصياغة منطق متماسك يقيه الغرق والضياع في متاهات الخيارات المطروحة والتي كل منها يدّعي أنه الحق والصواب وفيه الخير، بينما تدل الوقائع على عكس ذلك. حيث يزدحم الصيادون وكل منهم يلقي بالطعم الشهي لأسراب العقول الساعية إلى الحياة بما يشبع حاجاتها ويحقق أهدافها.


في مراحل الإقتتال الوحشي بين البشر كان الجسد هو هدف القتل لتحقيق الإنتصار . أما اليوم وفي زمن التعايش السلمي فإن العقل هو الهدف البديل .حيث يُعمل على حماية الجسد بينما يتم السيطرة على العقل. وتلك هي خلاصة العمل السياسي وأزمة الإنسان المعاصر، ومبعث الخوف على مستقبل البشرية جمعاء. إن في الإستيلاء على عقل الإنسان يتم السيطرة على الإنسان كله بجسمه وطاقاته وقدراته ، دون ارتكاب جريمة قتل ! إنها العبودية الخفيّة المقنـّعة. فبدلا من مشاهدة العبيد مقيدين بالسلاسل مدفوعين بقوة التهديد والوعيد . نرى من يتوهّمون أنهم يسيرون بحريتهم ، يندفعون بإرادتهم الذاتية ، يتحركون بقراراتهم الداخلية، وراء لقمة الخبز وتأمين الوظيفة ونيل رضى الزعيم. لا عصا تضربهم ولا صراخ يخيفهم. على العكس من ذلك مطربات مثيرات تتراقص على شاشاتهم وبرامج دينية ونشرات إخبارية "تنير عقولهم" باخبار الحاكم، وزعماء متنافسون يثيرون حماسهم. كلُّ هذا يحرّك فيهم الإندفاع وكلٌّ حسب الإتجاه الذي يُدفع إليه. فنرى جماعات من "الأحرار" ، يقودها الإستعباد الداخلي الخفي الذي اخترعه دعاة الحرية، والذي يتم زرعه منذ مراحل الطفولة ، لينبت خضوعاً وقبولاً، للأبوين في البيت وللمعلم في المدرسة وللزعيم في المجموعة وللحاكم في السلطة.إن السلطة الحاكمة تحرّك جيوشاً من العاملين في المؤسسات الدينية والتعليمية وتسخّر الثقافة والفنون ، بل وكل أسرة تربي أبناءها وفق توجيهات الحاكم المتواطئ ضد المحكومين، كل ذلك للوصول إلى رضى المواطن الذي يجترّ الأفكار التي زرعت فيه والتي تعبّأ بها، لكي يظهر الإدلاء برأيه في صندوق الإنتخابات على أنه قرار حر وإرادة جماهيرية ، لتكمل به خدعة الديمقراطية التي لا تبدو حقيقية وشرعية إلاّ بقطعان من الجماهير التي تبدو للمراقبين الدوليين من المتغافلين والمتواطئين، وكأن هذه القطعان ، بملء إراداتها وبكامل وعيها تصوّت وتختار، فيما هي موجّهة من التأثيرات التي تسيطر على عقولها كل من قبل مرجع ومصدر وبرمجة مختلفة.وكل ذلك لإعطاء صفة الشرعيّة إلى حكام وسلطات ومؤسسات غير شرعية تقوم على النفاق والخداع وتستغل ظروف المحكومين وأوضاعهم دون أن تسعى إلى تحسينها، وتستغل جهل الأميين وحاجة الفقراء وتقايض المتعلمين والمتخصصين بالوظيفة والمعاش مقابل السكوت عن الظلم والفساد. كل ذلك يحصل في مجتمعات يأكل الإنسان لحم أخيه الإنسان في البشرية ويتواطأ الإنسان ضد مصلحة مجتمعه مجبراً أو مختاراً . مجموعات من العاملين في الإعلام والفنون والتربية والتوجيه، في وظيفة جماعية هدفها الإستيلاء على عقول محبيهم من المشاهدين، يضعون المعارف السامة في أوعية العقول لتسيير الأجساد الحية من خلال ما يبدو أنه التوجيه الذاتي للعقول. جيوش من الموظفين يعملون في مؤسسات التواطؤ الرسمية للحاكم ضد المحكومين. في عهد مسلخ العقول بعد انقضاء عهد مسالخ الاجساد. بعد اكتشاف حاجتها للإحصاء والعدّ في عملية تزوير الحقائق، لكي يكون الضحايا هم المرجع الشرعي لسلطات الجلادين ، في عملية تسليم قطعان المحكومين رقابهم لمن يسنّ 




سيوف حساباته المصرفية على رقابهم ، بدلاً من سن القوانين التي تعترف بحقوققهم والتي تحمي حقوق أبنائهم وتجعلهم آمنين على مستقبلهم. بناء على هذه الأهمية الخطيرة للعقل، فقد كان لا بد من حمايته وإعداده لكي يحمي نفسه من العقول المفترسة التي تحاول اصطياده مع الحفاظ على الجسم سليماً ولو مؤقـّتاً!. ومن أجل ذلك فقد كان من المنطقي أن أدعو سائر المثقفين المخلصين للقضايا الإنسانية، من أجل التواصل والإسهام في صياغة خيار فلسفي إنساني يضاف إلى الخيارات الأخرى المعروضة أمام العقول، بتنوّعها واختلاف ألوانها بدءاُ بالمنطق الخرافي والأسطوري، مروراً بالمنطق السياسي والأناني المنفعي والمنطق الطائفي وصولا إلى أنواع من المنطق العفوي المزاجي وهو ما يمكن تسميته بمنطق اللامنطق. وحيث لكل منطق جماعة تستفيد منه بتضليل جماعة أخرى من الضحايا. وعلى مسافة من جميع هذه الأنواع يقف كل من المنطق الديني والمنطق العلمي ، حيث لكل منهما شبكة واسعة الإنتشار، الأول تستاثر بقسم كبير منه سلطات الحكم لتوجيه وعي المحكومين من أجل خدمة الحاكم، والثاني تحتاجه الدول في تنافس شديد للإعداد البشري من أجل إدارة وتوجيه الموارد المادية و الإقتصادية والعمليات العسكرية من أجل حماية الحكم مع الأخذ بعين الإعتبار إستمراية الحاكم وحماية النظام القائم من عقول المحكومين ، بتقديم العلم دون التربية على تأييد الحق، وتقديم الدين خالياً من طاعة الله. حيث يكون التأييد للحكم والطاعة للحاكم.
من الخطأ الكبير الذي يقع فيه المعترضون على هذا الواقع ، أنهم يقفون من الدين نفس الموقف السلبي من الشخصيات و المؤسسات الدينية التي تشكل أحد نفوذ آليات النظام السياسي والتي تعمل على تجميل صورة الحاكم الطاغية و ترويج منطق الإستبداد وتسهيل نشره في عقول المحكومين . بينما الدين يدعو إلى إتباع الحق وإلى عمل الخير وإلى المثل الإيجابية التي عمل الأنبياء على ترسيخها في نصرة المظلومين والفقراء ،ومحاربة الإستبداد والظلم والطواغيت . كما أن الكثيرين يعترضون على العلم وكثرة التـّعلم وما رافق ذلك من دعوات للحرية وما رافق ذلك من ظواهر إنفلات للرغبات الفردية والأطماع الشخصية المدمّرة ، بسبب ما يرونه من انحلال أخلاقي وفقدان لمعايير التربية السليمة وانتشار الخوف من المستقبل وكثرة الظواهر والمشاكل الإجتماعية التي لم تكن تظهر من قبل. بينما سبب ذلك ليس انتشار العلم والتعليم ، وإنما قصور الدولة ومؤسساتها عن القيام بواجباتها تجاه الإنسان الذي باتت احتياجاته ومتطلباته أكبر من قدرة العائلة على تلبيتها. إن المجتمعات تنمو وتتطوّر بشكل لا تنمو معه قدرات الدول ولا تتطوّر معه برامجها ومسؤولياتها تجاه شعوبها. إن مشاكل العصر هي أن الدول تنافس شعوبها بدلا من خدمتها، وإن الحكام يأكلون خبز المحكومين ويبيعون خيرات الشعوب ويتاجرون بفرصة الحكم ونفوذ السلطة لتحقيق الأنا الفردية للحاكم وأولاده والمحيطين به ، على حساب العدالة الإجتماعية والتنمية والعناية التي يجب أن تشمل المجتمع بكامل فئاته ومناطقه وأبنائه. إن سوء استخدام الدين من قبل المؤسسات الدينية الرسمية ، هو جزء من سوء إستخدام السلطة. وإن سوء توزيع فرص التعليم والإستفادة من العلم هو جزء من انعدام العدالة وعدم قيام الدولة بواجبها تجاه المواطنين. ولذلك نجد أصحاب المنطق الخرافي والأسطوري سواء من المنافقين لأهداف أنانية فردية أو لأهداف سياسية تعمل على إستغلال الدين وتوجيهاته لغير الصالح العام بشكل يتعارض




 مع منطلقاته وأهدافه . بينما لا شك في أن رسالات الانبياء وأتباعهم من المصلحين والأئمّة المعروفين ، لم تأتِ إلاّ من أجل تحقيق العدالة والأخوّة بين الناس. وهذا يقودنا إلى ضرورة التمسّك بالتراث الديني والرصيد الأخلاقي من ثقافتنا الممتدة في عمق التاريخ ، لكي لا يُستخدم المنطق العلمي لأهداف أنانية شريرة تضع العلم ومنجزاته في خدمة الشر بعيداً عن المصالح العامّة ، بينما يجمع البشر جميعا على أن العلم نور للعقول وبواسطته يمكن للبشرية أن تحقق الكثير من التقدم فيما لو تم وضعه في خدمة أهدافها. إن التلازم بين هذين المنطقين ، يشكل الأساس المتين للعقل المعاصر. ولذلك فإن المنطق الإنساني الذي أدعو إليه هو التفاعل الخلاّق بين منطق الدين ومنطق العلم من خلال اتباع الحكمة الدينية على أساس المعرفة العلمية وفي إطار ثقافة حقوق الإنسان للحضارة المعاصرة، وإن هذا المنطق يختلف عن منطق بعض المفكرين "الهيومانيست" في نهاية القرون الوسطى ، على قاعدة العداء للدين من ناحية ، وبدون قواعد علمية يستند عليها من ناحية أخرى ، مما جعله يرفع شعار النهضة ، والذي يعني نهضة الفكر اليوناني ، وما يعنيه من ثغرات معرفيّة تتمثّل في أنظمة تعبير لغوية لا ضوابط علمية وعملية لها .





إن العقل الحديث يحتاج إلى الفلسفة التي تليق به . وإن على الإنسان المعاصر أن يبحث عن شخصيته المميّزة في ما لم يبلغه أي عقل سبقه ولم يصل إليه أي شخص من قبل مهما بلغت قداسته. كما أنه يحتاج إلى منطق متوافق يخلو من التناقضات بين المنطلقات الموضوعية الموجبة والأهداف الإنسانية المرتجاة .

منطق يصلح للنظر في أمور الحياة الحديثة ومشاكلها وقضاياها الخاصّة بها، لتطوير الإمكانيات المتوافرة ومواجهة الظروف القاهرة والمشاكل المستجدة .

منطق يستوعب ما مضى من حكمة ونصوص دينية وأدبية وفلسفية ، وخبرات تاريخية وتراكمات ثقافية تراثية في مختلف الميادين، لكي يضيفها إلى المعطيات المعاصرة الجديدة التي لم يسبق أن توافرت في زمن أي نبي ولا في عهد أي مصلح ولا في أيام أي سلف سابق لنا مهما بلغت درجة معرفته ومهما كانت درجة محبته في قلوبنا من قديسين وأئمّة وأولياء صالحين .
هذه المعطيات المعاصرة وما تتجلّى فيه من إنجازات تشكل البصمة الخاصة والمميزة لحضارتنا الحديثة هي نقطة إلتقاء بين أديان الشعوب وعلومها. ولا ينبغي أن نهمل مثقال ذرّة من مكتسابتنا الإنسانية التاريخية ، ولا من المعطيات المتوفّرة في حاضرنا ، لكي نكمل مسيرة مستقبلنا وفق أهداف الخير في تحقيق رسالات الأنبياء في سعادة الإنسان مع أخوانه البشر أجمعين، وفي تحقيق ما يطمح إليه كل إنسان في حياة كريمة تؤمّن حقوقه وتضمن مستقبله في مجتمعات آمنة يعمها السلام والعدل على اسس الحق والخير في العلاقة بين الحاكم والمحكومين أو في العلاقة بين المحكومين أنفسهم، او في العلاقات الدولية على مستوى الأسرة الإنسانية.

من خلال الإلتزام بذلك المنطق يتم العمل على تطويره باستمرار وإعادة النظر فيه على ضوء النتائج العملية وإخضاعه للحوار مع العقول الآخرى و الإنفتاح على وجهات النظر المختلفة من دون تعصب للرأي وبدون إنغلاق على الذات ، ومن خلال التفاعل الحيوي مع عقول الآخرين وبالإطلاع المستمر على مصادر المعرفة تماشياً مع تطور المعارف في علاقة تبادلية بين تطور العقل في بعده الجماعي للبشرية وتطور المعرفة في أبعادها الكونية.


والمهم أن لا يكون العلم وإنجازاته الواقعية والمعرفية حكراً على فريق من الناس وفي دوائر مغلقة لكي يتحول إلى سلطة وقوة في يد فريق من القادة للسيطرة على العالم بما ومن فيه، ولكي لا يكون أداة إخضاع كل من وما عليه بقوة الإختراعات والإكتشافات، لتكديس الثروات واحتكار الخيرات والتحكّم بها، فيما يعيش الآخرون في ظلمات الجهل والفقر والظلم .

ولكي لا تكون الثقافة الدينية ومن يعتبرون أنفسهم أوصياء على الدين لكي يدّعو الوصاية على عقولنا وحياتنا وحرياتنا بحجة أن ما يدّعونه هو كلام الله، وان نقاشنا معهم هو اعتراض على الله! وهنا يكمن الخطر الكبير من المستقبل الذي يستبشر فيه الكثير من أبناء عصرنا خيراً ، بينما تلوح في الأفق علامات ومؤشرات لا تنبئ بأن منافع العلم والدين سوف تغمر الجميع.

وخاصة وأن فرص التعليم مازالت غير متوفرة للملايين من أبناء البشرية ، حيث يشكل الأميون وأنصاف المتعلمين أدوات بشرية شديدة الخطورة يتم إلغاء عقولها ،بإعتمادها على التبعيّة العمياء لما يقال بإسم الدين، ولما يوجّه إليها بإسم الله ، من قبل حكّام انانيين لا يقصدون بالله سوى منافعهم الشخصية وحساباتهم المصرفية ، و يستخدمها أصحاب النفوذ أو الساعون إليه، في عمليات خداع وتزوير باسم الدين والسياسة والديمقراطية الخادعة ، حيث يكون لكل حاكم استبدادي، جماعاته من هؤلاء المتعصبين الذين يشكلون حماية وضمانة له لكي يكون بمنآى عن المحاسبة.

وهذا ما يجعل الفساد يستمر، فالرقابة على الحاكم ومحاسبة المسؤولين من قبل المحكومين لا زالت أحلاماً يراها الحكام في منامهم على شكل كوابيس بينما في الواقع يعيش الكثير من شعوب الأرض كالأغنام في حظائر الحكـّام .

من أجل ذلك كان لا بد من منطق إنساني يوقظ عقل المحكومين من التضليل السياسي ويوقف ممارسات الحكام عند حدود الحق والعدالة. وكذلك من أجل تحقيق المصالحة الإيجابية بين المختلفين من مختلف إحتمالات الإنسان سواء في اختلافاتهم الدينية أوالثقافية أوالجغرافية ، على أساس الحق المنطقي الذي يصلح لأن يكون وسيطا بين العقول المختلفة للتوافق من خلال الحوار وعلى ضوء الحكمة والعلم و قيم الحضارة المدنية والتي أهمها ثقافة حقوق الإنسان ، وما يحقق الأهداف المنشودة لأبناء البشرية، في عالم يحتاج الكثير من العمل والتعاون .





شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

Pages