صحابي قرشي من الأوائل، أسلم هو وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون أخو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرضاعة بعد إسلام أبي بكر مباشرة، وقبل أن يلازم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم بن أبي الأرقم، وكان له من العمر حوالي 26 سنة.
وكان من عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية والتحق بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة بعيد هجرته إليها، فنَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ. وآخَى رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، كما آخى بينه وبين محمد بن مَسْلَمَةَ.
وشهد المعارك كلها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقاد عدداً من السرايا التي أرسلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قبائل العرب. وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِلَى ذِي الْقَصَّةِ سَرِيَّةً فِي أَرْبَعِينَ رَجُلا.
في غزوة أحد:
شَهِدَ أَبُو عُبَيْدَةَ بدراً وعمره 41 سنة، وأُحُدًا والخندق والمشاهد كلها، مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأظهر شجاعة واستبسالاً وتفانياً ونكران ذات إلى أقصى حد. ورد أن أبو عبيدة واجه أباه عبد الله بن الجراح في غزوة أحد فتجنبه إلى أن تقصده أبوه فاضطر لقتله ونزل فيه وفي أمثاله من الصحابة ممن واجه ابنه أو خاله أوقريباً له، قول الله عزّ وجلّ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .(22) (سورة المجادلة).
{أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ}: أَثْبَتَ التَّصْدِيقَ فِي قُلُوبِهِمْ فَهِيَ مُوقِنَةٌ مُخْلِصَةٌ. وَقِيلَ: حَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ فَذَكَرَ الْقُلُوبَ لِأَنَّهَا مَوْضِعَهُ.
وَثَبَتَ يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حِينَ انْهَزَمَ النَّاسُ وَوَلَّوْا: فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَرُمِيَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي وَجْهِهِ حَتَّى دَخَلَتْ فِي أُجْنَتَيْهِ حَلَقَتَانِ مِنَ الْمِغْفَرِ فَأَقْبَلْتُ أَسْعَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم – وَإِنْسَانٌ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَطِيرُ طَيَرَانًا. فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ طَاعَةً. حَتَّى تَوَافَيْنَا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فَإِذَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ قَدْ بَدَرَنِي فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ إِلا تَرَكْتَنِي فَأَنْزِعَهُ مِنْ وَجْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَتَرَكْتُهُ فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِثَنِيَّةِ إِحْدَى حَلْقَتَيِ الْمِغْفَرِ فَنَزَعَهَا وَسَقَطَ عَلَى ظَهْرِهِ وَسَقَطَتْ ثَنِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ ثُمَّ أَخَذَ الْحَلْقَةَ الأُخْرَى فَسَقَطَتْ. فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي النَّاسِ أَثْرَمَ.
غزوةُ الخَبَط:
بَعَثَه رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على رأس سَرِيَّةً فِي ثَلاثِمِائَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ إِلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ وَهِيَ غَزْوَةُ الْخَبَطِ.
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَنَحْنُ ثَلاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ فَأَعْطَانَا مِنْهُ قُبْضَةً قُبْضَةً. فَلَمَّا أَنْجَزْنَاهُ أَعْطَانَا تَمْرَةً تَمْرَةً. فَلَمَّا فَقَدْنَاهَا وَجَدْنَا فَقْدَهَا ثُمَّ كُنَّا نَخْبِطُ الْخَبَطَ بِقِسِيِّنَا وَنَسَفُّهُ وَنَشْرَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى سُمِّينَا جَيْشَ الْخَبَطِ. ثُمَّ أَخَذْنَا عَلَى السَّاحِلِ فَإِذَا دَابَّةٌ مَيِّتَةٌ مِثْلُ الْكَثِيبِ يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ لا تَأْكُلُوا. ثُمَّ قَالَ: جَيْشُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَحْنُ مُضْطَرُّونَ. فَأَكَلْنَا مِنْهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَاصْطَنَعْنَا مِنْهُ وَشِيقَةً. قَالَ وَلَقَدْ جَلَسَ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلا مِنَّا فِي مَوْضِعِ عَيْنِهِ وَأَقَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلاعِهِ فَرَحَّلَ أَجْسَمَ بَعِيرٍ مِنْ أَبَاعِرِ الْقَوْمِ فَأَجَازَهُ تَحْتَهُ. [فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: مَا حَبَسَكُمْ؟ قَالَ: كُنَّا نَبْتَغِي عِيرَاتِ قُرَيْشٍ. فَذَكَرْنَا لَهُ شَأْنَ الدَّابَّةِ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَكُمُوهُ اللَّهُ. أَمَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ] فأتاه بعضنا بشيء منه فأكله.
المعلم والداعية:
لما قدم أَهْلَ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سَأَلُوهُ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلا يُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ وَالإِسْلامَ. فقال: لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ حَقَّ أَمِينٍ حَقَّ أَمِينٍ. قَالَهَا ثَلاثًا. فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وتمناها عمر بن الخطاب وغيره .
وبعد أن صلى بالناس الظهر جعل يتلفت يميناً ويسارا وجعل عمر يتطاول علّ النبي يختاره، حتى رأى أبا عبيدة قَالَ فَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ فَقَالَ: هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ. وقال له: أخرج معهم، واقضِ بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: أَلا إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ.
أخلاقه وفضائله: أمضى عمره مجاهداً منذ أسلم ولم يعرف الراحة ككثير من الصحابة الكرام، ونقش على خاتمه: “الخمس لله”، لعله أراد أن يذكر جنوده عند رؤية توقيعه أن يذكروا حق الله فلا ينسوه ولا يغلوا ولا يغفلوا.
وكان أبو عبيدة في اليرموك نائباً لخالد قائد الجيش الذي قدم مدداً من العراق، وكان خالد قد أمر الجيش بالهجوم، وإذا بالبريد يصل إلى أرض المعركة فيحاول الجنود استطلاع الخبر فيبشرهم حامل البريد بالخير واقتراب وصول المدد من المدينة، وَلما بلغ الْبَرِيد خَالِدا سلمه الْكتاب، وَأخْبرهُ بوفاة أبي بكر، أسر إِلَيْهِ بِهِ، وَأخْبرهُ بِمَا أخبر بِهِ الْجند، فسر خَالِد فِي حسن تصرف الْبَرِيد وَقَالَ لَهُ: أَحْسَنت، وَوضع الْكتاب فِي كِنَانَته حَتَّى لَا يتطلع أحد على مَا فِيهِ فيجزع الْجند، وينتشر الْأَمر. وَلما انْتَهَت المعركة، وطارد الْمُسلمُونَ الرّوم حَتَّى حاصروهم فِي دمشق أظهر خَالِد الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ الْبَرِيد، فَإِذا هُوَ نعي للخليفة، وعزل لخَالِد من الْإِمَارَة وتولية لأبي عُبَيْدَة بن الْجراح إِمَارَة النَّاس.
كما جاء في البداية والنهاية أن الصِّدِّيقَ تُوُفِّيَ قَبْلَ فَتْحِ دِمَشْقَ، وَأَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يُعَزِّيهِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي الصِّدِّيقِ، وَأَنَّهُ قَدِ اسْتَنَابَهُ عَلَى مَنْ بِالشَّامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَشِيرَ خَالِدًا فِي الْحَرْبِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ كَتَمَهُ مِنْ خَالِدٍ حَتَّى فُتِحَتْ دِمَشْقُ بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْلِمَنِي حِينَ جَاءَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَلَيْكَ حَرْبَكَ، وَمَا سُلْطَانُ الدُّنْيَا أُرِيدُ، وَلَا لِلدُّنْيَا أَعْمَلُ، وَمَا تَرَى سَيَصِيرُ إِلَى زَوَالٍ وَانْقِطَاعٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ إِخْوَانٌ وَمَا يَضُرُّ الرَّجُلَ أَنْ يليه أخوه في دينه ودنياه.
وسُمِع أبو عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ مرةً يقول: وَدِدْتُ أَنِّي كَبْشٌ فَذَبَحَنِي أَهْلِي فَأَكَلُوا لَحْمِي وَحَسَوْا مَرَقِي.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الشَّامِ كلها، لما رآه من انبهار الناس فيه وحبهم النظر إليه وإعلائهم لشأنه وتبركهم به: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَحْمَرَ وَلا أَسْوَدَ يَفْضُلُنِي بِتَقْوَى إِلا وَدِدْتُ أَنِّي فِي مِسْلاخِهِ( أي في كنفه).
وحين زار عمر بلاد الشام، سأل مستقبليه أين أخي؟ قالوا من؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح. وصل أبو عبيدة وتعانقا ودعاه أبو عبيدة إلى داره، فلم يجد فيها سوى سيفه وترسه ورَحله. ويسأله عمر :ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس؟ فيجيبه: يا أمير المؤمنين هذا يبلّغني المَقيل.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يوماً لِجُلَسَائِهِ في المدينة: تَمَنَّوْا. فَتَمَنَّوْا. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَكِنِّي أَتَمَنَّى بَيْتًا مُمْتَلِئًا رِجَالا مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ.
وأرسل عمر بن الخطاب يوماً إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ. وَقَالَ لِلرَّسُولِ: انْظُرْ مَا يَصْنَعُ. قَالَ فَقَسَمَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى مُعَاذٍ بِمِثْلِهَا وَقَالَ لِلرَّسُولِ مِثْلَ مَا قَالَ. فَقَسَمَهَا مُعَاذٌ إِلا شَيْئًا قَالَتِ امْرَأَتُهُ نَحْتَاجُ إِلَيْهِ. [فَلَمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولُ عُمَرَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الإِسْلامِ مَنْ يَصْنَعُ هَذَا.]
مرضه: طاعون عمواس.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِيَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوْلِينَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَرَجْتَ لِأَمْرٍ فَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ, وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِيَ الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي, ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ ها هنا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ وَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدْرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ- وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَهُ- نَفِرُ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ, أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خِصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: “إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ”، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ بْنُ الخطاب ثم انصرف.
وفاته:
لَمَّا أُصِيبَ أبو عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ بالطاعون اسْتَخْلَفَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ. والذي توفي بسببه بلال بن رباح وضرار بن الأزور ومعاذ بن جبل بعد ذلك جراء الطاعون ذاته…
وفي مرض موته دخل عليه العِرْبَاضِ بْنِ السَّارِيَةِ فسمعه يقول: غَفَرَ اللَّهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رُجُوعَهُ مِنْ سَرْغَ. ثُمَّ قَالَ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم – يَقُولُ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ وَالْهَدَمُ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدَةٌ وَذَاتُ الْجَنْبِ شَهِيدَةٌ] .
وسمع مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَجُلا يَقُولُ: لَوْ كَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَا كَانَ بِالْبَأْسِ ذُو كَوْنٍ. وَذَلِكَ فِي حَصَرِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ (الكرنتينا). قَالَ وَكُنْتُ أَسْمَعُ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: فَقَالَ مُعَاذٌ فَإِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ تَضْطَرُّ الْمُعْجِزَةُ لا أَبَا لَكَ. وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ خَيْرِ مَنْ عَلَى الأَرْضِ. يقصد ان الفتوح كانت تتم ببركة أبي عبيدة وبحب الله له.
كَانَ أبو عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ رَجُلا نَحِيفًا. مَعْرُوقَ الْوَجْهِ. خَفِيفَ اللِّحْيَةِ. طُوَالا. أَجْنَأَ. أَثْرَمَ الثَّنِيَّتَيْنِ (صارت له لدغة منذ غزوة أحد).
شهد أبو عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ بَدْرًا وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَمَاتَ وعمره ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ فِي خلافة عمر بن الْخَطَّابِ وقبره في الأردن يزار إلى الآن. وتوفي ولداه في حياته ولم يعد له عقِب. وَكَانَ يَصْبُغُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ من الحديث الشريف عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ أَدْرَكْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ لاسْتَخْلَفْتُهُ وَمَا شَاوَرْتُ فَإِنْ سُئِلْتُ عَنْهُ قُلْتُ اسْتَخْلَفْتُ أَمِينَ اللَّهِ وَأَمِينَ رَسُولِهِ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه ويقربه وهو من الحواريين والعشرة المبشرين بالجنة، وميزته الكبرى كانت نكران ذاته وتواضع نفسه خدمة للدين ورفعاً لراية الإسلام وجمعاً للكلمة وتضحية بالذات والمناصب ولا يرى إلا رضى الله ورضى رسوله. حتى سماه النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “أمين هذه الأمة”، وقال فيه: نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ (عن أبي هريرة). رضي الله عنه وتقبل منه وأرضاه.