في الثامن والعشرين من صفر (عام 11 للهجرة) ألمّت فاجعة كبرى ومصيبة عظمى بالمسلمين ألا وهي رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. كما صادف ـ على بعض الأقوال ـ في مثل هذا اليوم ذكرى استشهاد السبط الأكبر الإمام المجتبى سلام الله عليه.
إن مصاب العالم برحيل رسول الله عظيم جدّاً؛ لأنّه إذا كانت مصيبة ممات كل شخص تتناسب مع عظم شخصيّته ومقامه، فإنّه لن يبلغ أحد من بين كلّ من خلق الله تعالى، لا في الماضي ولا في المستقبل، المقام الرفيع الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم ولن يكون من هو أعظم منه على الإطلاق. ومن ثمّ فكما أنه صلى الله عليه وآله كان جوهرة الوجود النادرة والفريدة، فكذلك تعدّ مصيبته فريدة واستثنائية. وأهل البيت المعصومون سلام الله عليهم هم وحدهم من يعرف النبي صلى الله عليه وآله حقّاً. أمّا نحن فمهما سعينا وطالعنا فلا نبلغ تلك الدرجة من المعرفة، ويظلّ الانطباع الذي يحصّله كلّ منّا عن تلك الشخصيّة الربّانية متناسباً مع مستوى إدراكه. ولذلك فإنّه لا يعرف عظمة هذه الرزيّة حق المعرفة إلاّ أئمّتنا سلام الله عليهم. أما فهْمنا ودركنا نحن لها فقليل جدّاً، حتى يمكن القول إن تصوّراتنا عن عظمة هذه الواقعة مجازية لا أكثر. أما حقيقة هذا المصاب وعظمته فلا يعرفها كما يجب إلا الإمام أمير المؤمنين والصديقة الزهراء والأئمة الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين.
في الخطبة التي ألقتها سيّدتنا فاطمة سلام الله عليها بعد عدّة أيّام من رحلة أبيها هناك عبارة تصف فيها عظم الفاجعة، وهذه العبارة جديرة بالتدقيق والتأمّل، حيث تقول سلام الله عليها: «واُزيلت الحرمة عند مماته... فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى»(1).
:. التأمّل في عبارة الصدّيقة الزهراء
إنّ من له إلمام باللغة والأدب ويتأمّل في هذه العبارة يدرك ما لهذه الكلمات الأصيلة من عمق. فمضمون كلامها سلام الله عليها ـ وهي من أفضل من أدرك هذه الحقيقة ـ أنّه ليست المصيبة العظمى في استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله، بل في إزالة حرمته صلى الله عليه وآله عند مماته، من منع النبي صلى الله عليه وآله من الكتابة، وما أعقبه من هجوم على بيت النبوّة ولمّا يُدفن النبي صلى الله عليه وآله بعد.
ولو قالت سلام الله عليها: «هُتكت الحرمة» لكان الأمر أهون، ولكنّها عدلتْ عن ذلك التعبير إلى قولها «أزيلت الحرمة» أي قضي عليها تماماً، ومن الواضح أنّ هناك فرقاً بين عبارات من قبيل هتك الحرمة أو التجاوز عليها وعبارة «إزالة الحرمة»، وأن التعبير الأخير يعني عدم الإبقاء على شيء منها.
ثمّ إنّها سلام الله عليها لم تقل «وأزيلت الحرمة بعد مماته» أو «أزيلت الحرمة لموته» بل استعملت حرف الجر «عند»، فقالت: «وأزيلت الحرمة عند مماته» ما يعني ـ كما هو الظاهر ـ أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وآله قد اُزيلت قبيل موته.
كما أنّ الملفت أنّها سلام الله عليها لم تقل «اُزيلت حرمته» بل قالت «اُزيلت الحرمة»، والظاهر أنّ الألف واللام في كلمة «الحرمة» هي ألف لام الجنس، فيكون المعنى أنّ القوم أزالوا عند رحيله صلى الله عليه وآله الحرم كلّها، فلم يزيلوا حرمة النبي صلى الله عليه وآله فقط بل أزالوا حرمة آله سلام الله عليهم أيضاً، ومنهم الصدّيقة الزهراء وأمير المؤمنين وسائر الأئمة سلام الله عليهم، بل أزالوا حرمة جميع الأنبياء والمرسلين وأوصيائهم، وحرمة الإسلام بل وحرمة الله تعالى وأوامره كحرمة الصلاة والصوم وحرمة الجنة والقيامة والعرش والكرسيّ وكلّ المقدّسات؛ ولا شكّ أن هذا أعظم بدرجاتٍ من مصيبة رحلة رسول الله صلى الله عليه وآله نفسه، ولهذا فقد أقسمت سلام الله عليها أنّ المصيبة العظمى ليست في رحيل الرسول صلى الله عليه وآله ـ على عظمة مصاب فقده ـ بل في إزالة الحرمة عند مماته. فقالت: «واُزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى».
يحسن أن نفكّر في هذه النقطة ونتوقّف عندها، وهي أنه لماذا عبّرت الصديقة الزهراء سلام الله عليها بهذه العبارة؟
لقد كان الناس في ذلك العهد مسلمين، يصلّون ويصومون، وقد دمعت أعينهم في الحزن على رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله، وربّما لطموا صدورهم ووجوههم حزناً عليه صلى الله عليه وآله. فلماذا قالت الزهراء سلام الله عليها ـ وهي صاحبة العصمة الإلهية الكبرى ـ هذا الكلام ولم تعتبر النازلة الكبرى والمصيبة العظمى في رحيل الرسول صلى الله عليه وآله بل اعتبرته في إزالة الحرمة التي وقعت حينذاك؟ ما معنى هذا الكلام الذي تكلّمت به الصديقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها؟
لاشكّ أن فقدان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ورحيله مصيبة وثلمة كبيرة لا يسدّها شيء، إلا أنّ السيدة الزهراء سلام الله عليها اعتبرت إزالة الحرمات مصيبة أعظم ونازلة أكبر حتى من مصيبة فقدان النبي صلى الله عليه وآله.
إنّ السيدة الزهراء سلام الله عليها لم تفصّل الأمر وتركته مغلقاً حتى تفكّر فيه الأجيال اللاحقة؛ لأنّه في تلك الأيام ـ وفي كثير من الأيام ـ لم يكن بالإمكان طرح هذا الموضوع، والسيدة الزهراء سلام الله عليها لم يكن بإمكانها أن تفصّل هذا الأمر.
أما اليوم، حيث يبحث الناس ـ في أجواء الانفتاح والحرية المستجدّة ـ عن الكلام الجديد والصحيح، ويمكنهم تشريح الحقائق، فلم تعد الحال كالسابق وأصبح من الممكن تشريح هذا الأمر، الذي وردت الإشارة إليه في صحاح العامّة، وتفسير الفخر الرازي وكثير من المصنّفات التفسيرية والتاريخية، وإنّ مراجعة كتب العامّة والخاصّة تساعد كثيراً على فهمه.
:. المكانة الإجتماعية لرسول الله صلى الله عليه وآله
لقد كان الرسول صلى الله عليه وآله قبل الإسلام وابتعاثه للرسالة، الشخص الوحيد في الجزيرة العربية الذي كان يشهد بصدقه وأمانته القريب والبعيد حتى لُقّب بالصادق الأمين. وبعد ظهور الإسلام أيضاً كان المسلمون ـ باستثناء قلّة محدودة ـ يحترمونه ويوقّرونه، وكان يحظى بمكانة اجتماعية رفيعة. ولقد بلغ من حبّ الناس وتقديرهم وتقديسهم له أنهم كانوا يتحلّقون حوله إذا أراد التقصير في مناسك الحج ليأخذوا ما يتساقط من شعره تبرّكاً به. وكانوا «إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له»(2).
وليس هناك من يستطيع أن يبيّن المكانة الإجتماعية لرسول الله صلى الله عليه وآله أفضل من لسان الله الناطق الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، لأنّه أفضل من عرفه، وكما روي عن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله نفسه: «يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، ولا عرفني إلا الله وأنت، ولا عرفك إلا الله وأنا»(3). وعندما يُسأل الإمام سلام الله عليه: أنت أفضل أم محمد؟ يقول: «ويلك ويلك أنا عبد من عبيد محمد»(4) مع أنه سلام الله عليه ـ كما قال هو ـ أفضل من جميع الأنبياء بمن فيهم أولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على عظمة رسول الله صلى الله عليه وآله.
:. إزالة حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله
إلا أنّ هذه الحرمة الرفيعة لرسول الله صلى الله عليه وآله قد أزيلت قبيل رحيله، ـ كما عبّرت بضعته الزهراء سلام الله عليها ـ وذلك عندما قال بعضهم: «إن الرجل ليهجر» وإنه «غلبه الوجع»(5).
هذه الواقعة ورد ذكرها في الكتب المهمّة للعامّة ومنها الصحاح عندهم، ورغم الاختلاف في نقل التفاصيل إلا أن أصل الخبر متواتر.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله ـ وهو أشرف الأولين والآخرين ـ يهان هكذا، فكيف سيتمّ التعامل مع سائر المقدّسات الأخرى؟!
وإذا وجدنا اليوم على وجه الأرض عابد صنم أو كافراً أو غير مسلم وكلّ ما نراه من ظلم وفسق، فإنّ سببه هو ذلك القول الذي تفوّه به المتفوّه على أشرف الأولين والآخرين.
روي: «لو أنّ أمير المؤمنين ثبتت قدماه لأقام كتاب الله كلّه والحقّ كلّه»(6) أي لو أن أمير المؤمنين سلام الله عليه حكم مباشرة بعد النبي صلى الله عليه وآله لما بقي حتى غير مسلم واحد ـ طبعاً من دون أن يجبر أحداً على الإسلام ـ ولما أزيلت حرمة الله والنبي والإسلام بل كانت باقية حتى اليوم.
إنّ كل الجرائم التي ارتكبت وترتكب عبر التاريخ من رشق الجثمان الطاهر للإمام الحسن سلام الله عليه بالسهام، وهدم مراقد أئمة أهل البيت سلام الله عليهم في البقيع، وأخيراً هدم مرقد العسكريين سلام الله عليهما في سامراء، وكلّ الجرائم التي ترتكب اليوم بحقّ المؤمنين في العراق وسائر نقاط العالم، هي من نتائج ذلك اليوم الذي عبّرت عنه الصديقة الزهراء سلام الله عليها بقولها: «واُزيلت الحرمة عند مماته».
فلولا تلك الإزالة وذلك التجرّي، لما استطاعوا أن يقيّدوا الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه ويحضروه إلى المسجد حاسر الرأس وحافي القدمين، ولا أن يهتكوا آلاف الحرمات الأخرى.
أجل، إنّ ذلك الهتك وتلك الإزالة هي منشأ كلّ ما حصل بعده من هتك وإزالة للحرمات.
فلئن كنّا نشهد اليوم أنّ الأعداء والظالمين يستهدفون القبّة النورانية والمرقد الطاهر للإمامين العسكريين سلام الله عليهما أو يضرّجون زوّار سيد الشهداء سلام الله عليه في يوم عاشوراء بدمائهم، فينبغي أن يُبحث عن السبب في آخر يوم من أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وآله.
ومن هنا يفهم لماذا اعتبرت الصديقة الزهراء سلام الله عليها جريمة إزالة الحرمة ـ أي كلّ الحرمات الإلهية ـ قبيل رحيل الرسول صلى الله عليه وآله أعظم كثيراً حتى من مصيبة فقد المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وآله وإن كانت مصيبة كبيرة لا يجبرها شيء.
إنّ كلّ ما وصل إلينا اليوم من الإسلام العظيم هو بفضل المعصومين سلام الله عليهم ولولاهم، ولولا الإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، لما وجدنا حتى مصلّياً واحداً أبداً، تماماً كما حصل بعد رحيل الأنبياء الآخرين الذين سبقوا نبينا صلى الله عليه وآله حيث لم يبق بعدهم من شريعتهم شيء.
ومن هنا نفهم معنى الحديث القدسي الشريف: «لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما».
فهذا الحديث لا يعني أنّ أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء سلام الله عليهما أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه هو القائل: «أنا عبد من عبيد محمد»، بل لعلّ المفهوم من هذا الحديث أن هذه الذوات المقدسة هم علّة بقاء الإسلام وثباته وخُلوده، ولولا استمرار هذه السلسلة النورانيّة المباركة ـ من الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه حتى صاحب العصر والزمان الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، لما بقي للإسلام اليوم أيّ ذكر أو أثر، ولزال الدين كلّه من الوجود.
:. مسؤوليتنا اليوم
ما تحدّثنا عنه يعود للماضي، ولكن آثاره باقية، وما زال أتباع الباطل يواصلون ممارسة نشاطاتهم التضليليّة وتغرير الشباب البسطاء والسذّج ويروّجون للعنف والخراب، ولكن ما هي مسؤوليتنا المعاصرة؟
• لنحاول أن نكون ممن يعرفون حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن لا نتوانى في هذا السبيل.
• واحدة من مسؤولياتنا تجاه رسول الله صلى الله عليه وآله هو نشر وتعميم ثقافة أهل البيت سلام الله عليهم عن طريق وسائل الإعلام العامة، والمحطات الإذاعية، والفضائيات والمجلات وحتى الكراريس وسائر المطبوعات. إضافة إلى الإبقاء على مشعل الإمام الحسين سلام الله عليه مضاءً في بيوتنا عن طريق إقامة المجالس الحسينية فيها؛ فإنّ كلّ شخص يستطيع حسب إمكاناته وقدراته أن يقوم بنشر الثقافة الحسينية، وأن يشتري بذلك خير وبركة الدنيا والآخرة.
• واجبنا الآخر هو أن نوفّق بين أخلاقنا وأخلاق النبي صلى الله عليه وآله. قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: «ولكم في رسول الله أسوة حسنة»(7). وكما نعلم فلقد كان النبي صلى الله عليه وآله مظهراً لكلّ المناقب الرفيعة والكمالات الأخلاقية. وهو القائل: «إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»(8).
فمن الجدير بكلّ واحد منّا أن يعزم من هذه اللحظة على الاقتداء بحضرته وأن يتعامل مع الجميع ـ حتى مع الذين لا يحسنون التعامل معه ـ بالأخلاق الحسنة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وآله كان كذلك، وكان يعامل حتى الذين يؤذونه برفق ويتجاوز عنهم.
فمثلاً: من كانت له زوجة سيّئة الخُلق، فليسع في أن يجاريها وليسع لتغيير خلقها وسلوكها بالنصيحة والمحبّة، فإن لم يستطع فليتحمّلها. وهكذا المرأة إذا كان زوجها سيّئ الخلق، عليها أن تعمل الشيء نفسه.
قالت السيدة الزهراء سلام الله عليها في وصيّتها للإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: «ولا خالفتك منذ عاشرتني»(9). والعارفون باللغة العربية يعلمون أن هناك فرقاً بين مفهوم «الخلاف» و«النقيض» و«الضد».
ولبيان الفرق بين هذه المفاهيم الثلاثة نضرب الأمثلة التالية:
لو أن رجلاً اقترح على زوجته أن تسافر إلى مشهد ولكنّها قالت بل أذهب إلى العمرة، فالذهاب إلى العمرة هنا يعد ضدّاً للذهاب إلى مشهد. ولكن لو قالت: «لن أذهب إلى مشهد» فإن «عدم الذهاب الى مشهد» يعد نقيضاً للذهاب إلى مشهد.
أما لو اقترحت أن يكون سفرها إلى مشهد بالقطار، فإنّ هذه الحالة تسمى تخالفاً. وكما تلاحظون فإنّ المخالف أقلّ شدة بمراتب من الضدّ والنقيض.
إن الصديقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها استعملت مادّة «الخلاف» بدلاً من مفهومي «الضد» و«النقيض» لتبيّن أنها لا تخالف الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه فضلاً عن أن تعمل على الضد أو النقيض من رغبته.
وعلى النساء أن يتعلّمن من الصديقة هذه الدرجة من الإنسجام والتواؤم مع أزواجهن وإن كانت صعبة؛ وذلك لأن السيدة الزهراء سلام الله عليها وشخصيات مثل السيدة زينب والسيدة فاطمة المعصومة (بنت الإمام الكاظم سلام الله عليه) والسيدة تكتم (أمّ الإمام الرضا سلام الله عليه) والسيدة نرجس (أمّ الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف) قدوات للنساء، وإن كانت السيدة الزهراء سلام الله عليها هي الأفضل من بينهن.
لا يظنّن أحد أن حياة الصديقة فاطمة سلام الله عليها كانت عاديّة، فطيلة السنوات التسع التي عاشتها مع الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، لم يكن (الإمام) أكثر هذه المدة في الدار وكان مشغولاً بالجهاد وغيره. وما أكثر الأيام التي لم يكن عندهم في البيت حتى تمرة يسدّوا بها جوعهم وجوع أطفالهم.
ما أكثر الحالات التي اقترض فيها الإمام ديناراً لإعداد الطعام ثم رأى فقيراً أو محتاجاً في الطريق فتصدّق به عليه وعاد إلى البيت خالي اليدين. أجل هكذا كانت تعيش الزهراء سلام الله عليها ولم تكن حياتها مرفّهة أبداً.
فما أحسن أن تتخذ النساء من السيدة الصديقة سلام الله عليها أسوة وقدوة لهن في حياتهن وأن يتحمّلن في سبيلها الصعوبات. فحقيق بالمرأة التي تتخذ قراراً كهذا أن تبلغ السعادة. إن السعادة لا تأتي من الثروة والشهرة والجاه وأمور من هذا القبيل. إنّ المرأة التي تتجاوز عن صعوبات الحياة وفظاظة الزوج في سبيل الله تعالى لن تصاب بالكآبة واليأس أبداً.
:. وصايا للرجال
على الرجال أيضاً أن يصمموا على التحلّي بالخلق الحسن وأن يتزوّدوا في هذا الطريق من الأخلاق الفاضلة لرسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار سلام الله عليهم.
لقد كان للنبي صلى الله عليه وآله زوجات متعددات، كان فيهن المؤمنات وحسنات الأخلاق، كما كان فيهن سيئات الخلق اللواتي طالما آذين النبي صلى الله عليه وآله واتهمنه ونسبن إليه الأقاويل، ولكن لم يُسمع أبداً أن النبي صلى الله عليه وآله ضربهن أو نحو ذلك.
لا يستطيع أحدٌ أن يدّعي أن أخلاق زوجته وسوء تصرّفها هو أسوأ من تصرّف بعض زوجات النبي صلى الله عليه وآله، إذاً حريّ بالمؤمنين أن يصمّموا على تعلّم تطبيق هذا الخُلق العظيم من النبي صلى الله عليه وآله في تعاملهم مع زوجاتهم.
لا شك أن حسن الخلق لا يختصّ بالزوجين، وأنّ على الإنسان أن يراعي ذلك في تعامله مع أخيه وأخته وأبيه وأمّه وأقربائه وجيرانه وزملائه وأصدقائه، بل حتى مع أعدائه ومع سيّئي الخلق أيضاً.
ينبغي أن نتحلّى بالحلم في تعاملنا مع الآخرين، وأن نردّ على سوء خلق البعض بالحلم والأخلاق الحسنة. ولا ننسى أن أيّاً من هذه المواقف لا تبقى دون مكافأة وأن الله تعالى سيثيبنا على المصائب والمتاعب التي نعاني منها في هذا الطريق، ولعلّه يدفع عنّا بعض البلايا جزاءً لموقف حليم وقفناه إزاء تصرّف أخلاقي مذموم من الآخرين.
:. الشباب
أمّا وصيّتي إلى الشباب فأقول لهم: لا تدعوا أيّاً من الشباب ينحرف إلى طريق الفساد، إنّ خير من يسوق الشباب صوب الخير والهداية هو أمثالهم (من الشباب).
فما أكثر الحالات ـ عبر التاريخ ـ التي أنقذ أخ أخاه أو أخته من الفساد والضلالة.
لابدّ من إنقاذ الشباب ـ بالأناة والاستدلال ـ من الطرق المنحرفة وإرشادهم إلى نور أهل البيت سلام الله عليهم. وفي هذا المضمار يجدر بالشباب أن يطالعوا رسالة الإمام الصادق سلام الله عليه إلى شيعته (الواردة في كتاب تحف العقول وبحار الأنوار وغيرهما) بدقّة وتأمّل، وأن يعملوا بها، ويكثّروها، يوزّعوها على الآخرين.
الآباء والأمّهات إيضاً ليتعاملوا بحسن مع أبنائهم، وأن يكونوا أصدقاء معهم، لا أن يأمروهم وينهوهم فقط. ليسعوا في دعوتهم إلى مكارم الأخلاق عن طريق الكلام الليّن والقصص والأساليب المناسبة الأخرى، ولا ينسوا أنّ هؤلاء الأبناء لم يذوقوا مرارة الحياة ولم يكتسبوا التجارب بعد، ولكنهم في الوقت نفسه يتمتّعون بفطرة أنقى وأنهم يتقبّلون الخير أسرع من غيرهم. فعن الإمام الصادق سلام الله عليه أنه قال: «عليك بالأحداث فإنّهم أسرع إلى كلّ خير»(10).
ربّ شابّ يتغيّر بجملة واحدة، ولكن ليس كل الشباب هكذا، فقد يحتاج شابّ آخر إلى مئة جلسة حتى يهتدي ويسير في طريق الصلاح، فهل طول الفترة والجهود اللازمة مسوّغ للتخلّي عنه، كلاّ بالطبع. لابدّ من بذل الوقت والجهد لكلا الشابّين، لأنّ الولد الصالح أغلى من أيّ شيء، وكما أنّ لكلّ عمل صعوباته الخاصّة، فكذلك تربية الأولاد ليست مهمّة يسيرة ولكنّها تستحقّ ما يبذل في سبيلها، لأن الولد الصالح ينفع والديه في الدنيا وفي البرزخ والقيامة.
لقد كان عليّ بن مهزيار شابّاً نصرانياً وضالاًّ، ولكنه بلغ هذا المقام الرفيع الذي بلغه بفضل اهتدائه بنور أهل البيت سلام الله عليهم.
وكان وهب شابّاً نصرانياً أيضاً اهتدى فصار في عداد شهداء كربلاء، حتى بات الملايين اليوم يفخرون بمخاطبته بالقول: «بأبي أنت وأمي».
إن للشباب فطرة نقية، ولكن لابدّ من السعي والبناء حتى نهديهم إلى الطريق الصحيح.
لا يمكن أن نبني عمارة ذات مئة طابق على الأرض اللينة، ولكن يمكن ذلك على الأرض الصلبة. هكذا هم الشباب، فالشاب الأبعد والمحتاج إلى سعي أكبر حتى يهتدي يشبه الأرض الصلبة ولكنه أغلى؛ لأن من بين هؤلاء يبرز أمثال علي بن مهزيار وزهير بن القين ووهب وزرارة.
لاشك أن السعي لنشر ثقافة وتعاليم أهل البيت سلام الله عليهم والأخلاق النبوية وإنقاد الشباب من المزالق والمهاوي والأخذ بأيدهم نحو الخير والهداية والصلاح يُعدّ من أهمّ مصاديق الوفاء لرسول الله والعرفان بجميله وتوقيره والاعتراف بحرمته صلى الله عليه وآله.
أرجو من الله سبحانه وتعالى وببركة رسوله صلى الله عليه وآله أن يوفّقنا لأن نكون من العارفين بحرمة رسوله صلى الله عليه وآله الشاكرين له، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.