فريق قدموا في العشرين يوما الماضية اعمالا صالحة كثيرة لازموا صلاة الجماعة وحضروا التراويح من تكبيرة الا حرام









إذا حان وقت العصر فقد غربت الشمس أو تكاد , وقطار الرحمة الذي رَسا بين أيدينا أياما أطلق صفارة الإشعار بقرب الانطلاق , يستعد وكأنه قضى أمامنا ساعة من نهار .

نعم رمضان قطار الرحمة , قطار من عند الرحمان الرحيم أرساه أمامنا لكي نحط عليه ذنوبنا والآثام , ونرمي عليه ثقلنا من الإجرام , فيرميها كلها بعيدا عنا في سلات العفو والغفران , ونشحن عرباته بأعمال البر والإحسان , فيحملها إلى الملك الديّان , حيث تضاعف وتصان , حتى إذا جاء اليوم الآخر وجدنا لمن عمل وتقبل الله منه صحفا بأعمال البر مليئة , محذوفة منها كل جريرة وخطيئة , ولكن كل ذلك لمن قدم هذه الأعمال إلى هذا اليوم العظيم , يوم يقوم الناس لرب العالمين , يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد .


فريق قدموا في العشرين يوما الماضية أعمالا صالحة كثيرة , لازموا صلاة الجماعة , وحضروا التراويح من تكبيرة الإحرام إلى آخرها كل ليلة , وفي الأسحار تجافت جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا , وفي النهار أضافوا إلى صيامهم توزيع الإعانات لكل من جاع وطمع , وقالوا بأيديهم هكذا وهكذا يمينا وشمالا , واجتهدوا في قراءة القرءان والذكر والطاعات ما استطاعوا , كثرت خطاهم إلى المساجد , وأحيوا الليالي ما بين تال وساجد , فبشرى لهذا الفريق بما قدموا لأنفسهم من خير يجدونه بإذن الله غدا عند الله , وما حطّوا عن أنفسهم من الذنوب , ورمضان ينتظرهم ليستقبلهم يوم القيامة ويشفع لهم أمام الملك الديّان , ففي الحديث الذي خرجه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :(الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الصِّيَامُ أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَيَقُولُ الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ فَيُشَفَّعَانِ[1]) .

فماذا على هذا الفريق المبارك اليوم من المجتهدين العُبّاد ؟

إن عليهم أن يفكروا في أنهم عملوا هذه الطاعات , والطاعات محفوظة بإذن الله , وثوابها يوم القيامة هو المرجو أمام الله بعد رحمة الله تعالى للفوز بالجنة والنجاة من النار , فيجمعون بين الخوف والرجاء , الخوف لأنهم لا يعلمون ما إذا تقبل الله منهم هذه الأعمال أم لم يتقبل لأن هنالك شوائب شابتها فكان حظهم الحرمان , ويرجون , يرجون رحمة الله وصدق وعده , وكريم صفحه وعفوه .

ثم مع الخوف والرجاء يلاحظون أن العشر الأواخر من رمضان قد أزف , فيجدّدون الاستعداد , ويؤكّدون السير للنجاة يوم المعاد , ويعلمون أن ليلة القدر موجودة على أرجح الروايات في إحدى ليالي العشر الأواخر وفي الوتر منها , وهي ليلة خير من ألف شهر , لا تجوز الغفلة عنها ولا الغفلة فيها , بل يتحتم اغتنام كل دقيقة فيها , فيتحرون في هذه العشر هذه الليلة , ويفعلون فيها ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله , من إحياء الليالي وشد الإزار , وتكثيف أعمال البر في الليل والنهار , زيادة على ما كانوا كثّفوا منذ أول رمضان , وينطلقون انطلاقة جديدة , يشدون على العدو وهو النفس الأمارة بالسوء فيهجمون عليها بالجهاد الأكبر , شاهرين عليها سيوف العزيمة , مصطبرين على الطاعات العظيمة , ويوقظون الأهل والأولاد حتى الصغار , ويزيدون من القيام خصوصا في ليالي الوتر , ويزيدون كذلك من الإطعام والإنفاق والتلاوة والذكر , ومن جميع أعمال البر , ومن تيسر له الاعتكاف اعتكف , استنانا بسنة خير من طاف وعكف ,



أما الفريق الثاني فهم الأكّالون البطّالون , الكسالى الغافلون , الذين ألهتهم كثرة الأكل في الليل وكثرة النوم في النهار عن تكثيف الطاعات , ففي النهار هم ضعفاء من أجل الصيام كما يتصورون , وفي الليل هم كسالى لأنهم ملأوا بطونهم بالماء البارد وألوان أطعمة السحور والإفطار, فلم يجتهدوا في عبادة الله لا في ليل ولا في نهار , فهم كفاهم كما يعتقدون كفاهم الضعف وشدة الحرارة في النهار عبادة , فلم يرفعوا ثقل ذنوبهم عن كواهلهم ولم يحطوها في عربات القطار , ولم يشحنوا هذه العربات بأعمال البر في الليل ولا في النهار , وهم في النهار إن لم يناموا في المجالس يتحدثون , وفي الليل هم على شاشات التلفاز يتفرجون , أو مع الأهل سامرون , يعدون الأيام الباقية من رمضان وهم لها مستكثرون , فيا لضيعة حياة هؤلاء , فكم ضيّعوا من فرص للمغفرة والعفو، لو قاموا الليل وقرءوا القرءان والذكر في النهار , لو قلّلوا طعام السحور والإفطار , فلعلّهم نسوا يوم البوار , (يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا) .

فما ذا على هذا الفريق المقصر الغافل ؟

إن على هؤلاء أن يعجّلوا الندم أثناء الحياة قبل الندم عند الموت أو الندم يوم القيامة , فإذا عجّلوا الندم وعلموا أن أكثر أيام رمضان قد انسلخ وما قدموا فيه لأنفسهم أي شيء يذكر , وعلموا أن كل جزء من رمضان يفوت فإنما الفائت فرصة ذهبية عظيمة كانت سانحة لنيل المرام , يوم الوقوف أمام الملك العلام , وكل ما فات من الحياة فلن يعود , وهيهات لأمس أن يعود , فيركبون مطية الندم , ويهاجمون ويشدّون على العدو شدا , ويغيّرون من برنامج الفطور والسحور , ويقلّلون من الأكل والشرب , ويجيبون على النفس عندما تظهر الكسل أو تدّعي الضعف أو العجز قائلين لها صه أيها العدو الكذاب, كم أخرتني عن السير مع الركاب , وكم سبّبت لي من دواعي المقت والعذاب , ويعلمون أن رمضان ليس شهر راحة ولا نوم , وإنما هو شهر تخلص من الذنوب وفوز بالجنان , ولا أمل في ذلك إلا بعد دفع أغلى الأثمان , ويعلمون أن (كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها[2]) كما قال سيد ولد عدنان , ويعلمون أن الركب قد مضى وأنهم مسبوقون , فيحثّون السير وهل هم بهم ملتحقون ؟ , فيعقدون العزم على استدراك ما أمكن استدراكه مما فات , ويعملون فوق ما يعمل الفريق الأول من الطاعات , فيحيون من الليالي قدرا لم يصل إليه السابقون , ويكثفون فوق ما كثفوا من حضور صلوات الجماعة وقراءة القرءان , ومن التراويح وقيام الليل والذكر للملك الديّان , وفي الإنفاق يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة , ويبكّرون من الدخول في معتكفاتهم قبيل اللحظات الأولى لبدء العشر الأواخر , لعلهم يحطون من أثقالهم ما وسعه باقي الوقت , ويشحنون في عربات القطار كل ما أمكنهم شحنه من الطاعات وأعمال البر في الليل والنهار .


إنني قبل الختام أريد أن أعرج إلى سنتين من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم , نسي إحداهما أكثر المسلمين اليوم , والأخرى بدلها أكثرنا بدعا حيث اقتلعوا شجرة السنة وغرسوا مكانها شجرة البدعة , والشيطان يسول لهم ويقول شجرة بشجرة , وهو يسخر منهم من حيث لا يشعرون .

أما السنة التي استبدلت ببدعة فهي ليلة القدر , فاسأل نفسك أيها المسلم كيف تعيش ليلة القدر , وقارن ما تفعله فيها بما كان يفعله المصطفى صلى الله عليه وسلم , فنحن نتولى نقل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله فيها من أصح متون الحديث , وأنت تتولى المقارنة بنفسك , ونذكرك أن الأمة المحمدية جمعاء من أولهم وأرفعهم درجة وهو سيدنا أبو بكر رضي الله عنه إلى آخر من سيولد في هذه الدنيا من الأمة , إذا وُضعت أقوالهم وهم مجمعون في كفة ميزان ووضع حديث واحد من أحاديثه صلى الله عليه وسلم في الكفة الأخرى رجحت كفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم , إذ هو المرسل وحده من عند الله تعالى , فمن خالف صريح النصوص الواردة من عنده فهو على شفا جرف هار , لقوله تعالى :(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[3]) . فقد خرج البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :(الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى[4])

وخرج الشيخان عَنْ أمنا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :(كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ[5]) .

وقد أجمع علماء الأمة على شرح هذا الحديث بما أورده النووي في شرحه على صحيح مسلم قال :(ففي هذا الحديث أنه يستحب أن يزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان واستحباب إحياء لياليه بالعبادات) .

والعبادات التي باشرها النبي صلى الله عليه وسلم فيها وترك عليها أصحابه هي القيام وتلاوة القرءان والدعاء .

وخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : قولي (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني[6]) .

وفي رواية للترمذي :(عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال قولي :(اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني[7]) .

أما السنة التي نسيها أكثر المسلمين اليوم فهي الاعتكاف في العشر الأواخر .

ففي البخاري عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :(أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) .

وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ أَرَادَ الاِعْتِكَافَ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النبي -صلى الله عليه وسلم- بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْفَجْرَ نَظَرَ فَإِذَا الأَخْبِيَةُ فَقَالَ « آلْبِرَّ تُرِدْنَ ». فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَتَرَكَ الاِعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ[8].

ولكن ما معنى الاعتكاف ؟

قال النووي في شرح مسلم :(أصل الاعتكاف في اللغة الحبس وهو في الشرع حبس النفس في المسجد خاصة مع النية) .

أي أن الاعتكاف هو المقام في المسجد مدة من الزمن ولا يصح في غير المسجد , والمقام في المسجد بدون نية الاعتكاف لا يكون اعتكافا , والعمل عند الاعتكاف حسب السنة النبوية هو نفس العمل في نهار رمضان وليله ،الصلاة وقراءة القرءان وذكر الله تعالى بالصيغ الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم من التسبيح والتحميد وغيرها من الأدعية والأذكار النبوية , هذا مع ملازمة المسجد , وقال بعض العلماء إن صوم النهار شرط في صحة الاعتكاف , وقيل لا يشترط الصوم فيه .

اللهم إنا نسألك الجد على طاعتك , والإخلاص في عبادتك , ومداومة اقتفاء سنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم , وقفو خطاه حذو الحافر للحافر .




شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

Pages