مجاهدة النفس في ترك المحرمات:
قال ابن رجب: " إنَّ الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قوياً ، لا صبر معه للعبد على الامتناع مع فعل المعصية مع القدرة عليها ، فيحتاج الكفُّ عنها حينئذٍ إلى مجاهدةٍ شديدةٍ ، ربما كانت أشقَّ على النفوس من مجرَّدِ مجاهدة النفس على فعل الطاعة ، ولهذا يُوجَدُ كثيراً من يجتهد فيفعل الطاعات ، ولا يقوى على ترك المحرمات " جامع العلوم والحكم (11/ 24).
وقال الحسن البصري: " أفضل الجهاد جهاد الهوى "أدب الدنيا والدين - (ص 15).
قال ابن رجب: " ولما كان الصبر شاقا على النفوس ، يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها ، وكفها عما تهواه ، كان ضياء " جامع العلوم والحكم (2/ 24).
قال ابن المبارك : " من صبر ، فما أقل ما يصبر ، ومن جزع ، فما أقل ما يتمتع .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن النصر مع الصبر ) يشمل النصر في الجهادين : جهاد العدو الظاهر ، وجهاد العدو الباطن ، فمن صبر فيهما ، نصر وظفر بعدوه ، ومن لم يصبر فيهما وجزع ، قهر وصار أسيرا لعدوه ، أو قتيلا له " جامع العلوم والحكم (2/ 39).
مجالات المجاهدة:
يشمل هذا مجاهدة النفس في فعل الخيرات والقربات واجتناب المحرمات والسيئات وفق ضوابط الشرع.
ذكر ابن رجب:
* إسباغ الوضوء في شدة البرد من جنس الآلام التي تحصل للنفوس في الدنيا
* حبس النفس في المسجد لانتظار الصلاة وقطعها عن مألوفاتها من الخروج إلى المواضع التي تميل النفوس إليها.
* الصلوات الخمس .
* الجمعة إلى الجمعة .
* رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
* الشهادة في سبيل الله تكفر الذنوب بما يحصل بها من الألم ، وترفع الدرجات بما اقترن بها من الأعمال الصالحة بالقلب والبدن، وغير ذلك مما وردت فيه نصوص شرعية " جامع العلوم والحكم - (ص: 66-65).
فضل المجاهدة:
قال ابن رجب : " إن في حبس النفس على المواظبة على الفرائض من مخالفة هواها وكفها عما تميل إليه ما يوجب ذلك تكفير الصغائر " جامع العلوم والحكم (1/ 66).
قال ابن رجب: " فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه ، وحصل له النصر والظفر ، وملك نفسه ، فصار عزيزا ملكا ، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك، غلب وقهر وأسر ، وصار عبدا ذليلا أسيرا في يدي شيطانه وهواه " جامع العلوم والحكم (2 / 39).
ضوابط المجاهدة:
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: " يا من يطلب من الدنيا ما لا يلحقه أترجو أن تلحق من الآخرة ما لا تطلبه " أدب الدنيا والدين (ص: 393).
وقال الحسن البصري رحمه الله: " لا تحملن على يومك هم غدك، فحسب كل يوم همه " أدب الدنيا والدين (ص: 396)
قال الحسن البصري: " ان المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل وان الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل فكيف يكون يحسن الظن بربه من هو شارد عنه حال مرتحل في مساخطه وما يغضبه متعرض للفتنة قد هان حقه وأمره عليه فأضاعه وهان نهيه عليه فارتكبه وأصر عليه وكيف يحسن الظن به من بارزه بالمحاربة وعادى أولياءه ووالى أعداءه وجحد صفات كماله وأساء الظن بما وصف به نفسه ووصفته به رسله وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر وكيف يحسن الظن بربه من يظن أنه لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يرضى ولا يغضب وقد قال الله في حق من شك في تعلق سمعه ببعض الجزئيات وهو السر من القول ]وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أراداكم فأصبحتم من الخاسرين[ فهؤلاء لما ظنوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيرا مما يعملون كان هذا إساءة لظنهم بربهم فأرداهم ذلك الظن وهذا شأن كل من جحد صفات كما له ونعوت جلاله ووصفه بما لا يليق به فإذا ظن هذا أنه يدخله الجنة كان هذا غرورا وخداعا من نفسه وتسويلا من الشيطان الإحسان ظن بربه فتأمل هذا الموضوع وتأمل شدة الحاجة اليه وكيف يجتمع في قلب العبد تيقنه بأنه ملاقي الله وأن الله يسمع ويري مكانه ويعلم سره وعلانيته ولا يخفى عليه خافية من أمره وأنه موقوف بين يديه ومسئول عن كل ما عمل وهو مقيم على مساخطه مضيع لأوامره معطل لحقوقه وهو مع هذا يحسن الظن به وهل هذا الأمن إلا خدع النفوس وغرور الأماني..." الجواب الكافي (ص: 14).
قال الحسن: « إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما في طاعة الله ، فبغاك وبغاك ، فرآك مداوما ملك ورفضك ، وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك » الزهد والرقائق لابن المبارك (ص: 24).
قال ابن المبارك : إن « البصراء لا يأمنون من أربع خصال ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع الرب فيه ، وعمر قد بقي لا يدري ماذا فيه من الهلكات ، وفضل قد أعطي لعله مكر واستدراج وضلالة وقد زينت له فيراها هدى ومن زيغ القلب ساعة ساعة أسرع من طرفة عين قد يسلب دينه وهو لا يشعر » شعب الإيمان للبيهقي (2 / 416).
قال ابن المبارك : من « أعظم المصائب للرجل أن يعلم من نفسه تقصيرا ، ثم لا يبالي ولا يحزن عليه » شعب الإيمان للبيهقي (2 / 449).
قال الحسن البصري: " أن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائما يقول ما أردت بهذا لم فعلت هذا كان غير هذا أولى أو نحو هذا من الكلام " الروح (ص 225).
خرج عمر بن عبد العزيز رحمه الله يوم الجمعة فخطب كما كان يخطب ، ثم قال : « أيها الناس ، من عمل منكم خيرا فليحمد الله تعالى ، ومن أساء فليستغفر الله ، ومن عاد فليستغفر الله ثم إن عاد فليستغفر الله ؛ فإنه لابد لأقوام أن يعملوا أعمالا وضعها الله تعالى في رقابهم ، وكتبها عليهم » الشريعة للآجري (2 \ 85).
قال الحسن : " المؤمن لوام على نفسه : يحاسب نفسه لله ، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة " تزكية النفوس وتربيتها... (ص: 75).
المجاهدة لا الرهبانية:
قال ابن تيمية: " المترهبون أوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم هؤلاء استمتعوا بخلاقهم وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهي عنها أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم الله والدار الآخرة ويفسد حالهم كما هو مشاهد كثيرا منهم . والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات - وإن كانوا يقولون : إن الله لم يحرم هذا ؛ بل يلتزمون ألا يفعلوه إما بالنذر وإما باليمين كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء - يقول أحدهم : لله علي ألا آكل طعاما بالنهار أبدا ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة ويلتزم ذلك بقصده وعزمه وإن لم يحلف ولم ينذر . فهذا يلتزم أن لا يشرب الماء وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز وهذا يلتزم ألا يشرب الفقاع وهذا يلتزم ألا يتكلم قط وهذا يجب نفسه وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح . وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس وقهر الهوى والشهوة ....
نعم المجاهدة:
وقال: " ...ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها وكذلك قهر الهوى والشهوة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :» المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» " مجموع الفتاوى (14/460).
قال ابن تيمية: " وأما مجرد بروز الإنسان للحر والبرد . بلا منفعة شرعية واحتفاؤه وكشف رأسه ونحو ذلك مما يظن بعض الناس أنه من مجاهدة النفس فهذا إذا لم يكن فيه منفعة للإنسان وطاعة لله فلا خير فيه " مجموع الفتاوى (22/315).
قال ابن القيم: " فهنا اربعة امور احدها تصديق الخبر الثاني بذل الاجتهاد في رد الشبهات التي توحيها شياطين الجن والإنس في معارضته الثالث طاعة الامر والرابع مجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وبين كمال الطاعة وهذان الأمران اعني الشبهات والشهوات أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده، كما إن الأصلين الأولين وهما تصديق الخبر وطاعة الأمر أصل سعادته وفلاحه في معاشه ومعاده وذلك أن العبد له قوتان قوة الإدراك والنظر وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام وقوة الإرادة والحب وما يتبعه من النية والعزم والعمل فالشبهة تؤثر فسادا في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها بدفعها والشهوة تؤثر فسادا في القوة الإرادية العملية ما لم يداوها بإخراجها " مفتاح دار السعادة (1/40).
وقال ابن القيم: " ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه " مدارج السالكين (1/171).
قال ابن رجب: " جهاد النفس والهوى ، فإن جهادهما من أعظم الجهاد ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « المجاهد من جاهد نفسه في الله » جامع العلوم والحكم - (2/ 37)
نماذج من أقوال وأفعال أصحاب المجاهدة:
ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه ويقع فيه فقال له عمر: إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها. إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 372)
وكان عمر بن عبد العزيز لا يسجد إلا على التراب. الرسالة القشيرية - (ج 1 / ص 68).
يقول الحسن : « أي قوم ، المداومة المداومة ؛ فإن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت » الزهد والرقائق لابن المبارك (ص 22).
قال الحسن : " رحم الله عبدا وقف عند همه، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره تأخر " تزكية النفوس وتربيتها.... (ص: 77).
قال عمر بن عبد العزيز : « أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس » محاسبة النفس (ص 120).
فوائد مجاهدة النفس:
* إخضاع النفس والهوى لطاعة الله عز وجل.
* إبعادها عن الشهوات وصدّ القلب عن التمنّي والتشهي.
* تعوّد الصبر عند الشدائد على الطاعات وعن المعاصي.
* طريق قويم يوصل إلى رضوان الله تعالى والجنة.
* قمع للشيطان ووساسه.
* نهي النفس عن الهوى فيه خير الدنيا والآخرة.
* من جاهد نفسه وأدّبها سما بين أقرانه وفي مجتمعه.
* سوء الظنّ بالنفس يعين على محاسبتها وتأديبها.
* من يجاهد نفسه يمتلك باصية الخير ويصبح حسن الخلق.
تحقق إنكار الذات وتصفّي الجماعة من الأثرة الضارّة بالجماعة والمجتمع. نضرة النعيم (8\3316).