بسم الله الرحمن الرحيم
إن علاقة السلوك الإنساني باللذة والألم هي علاقة المسبب بالسبب فالإنسان بطبيعته يحرص على اللذيذ والممتع كما يحرص بطبيعته أيضاً على الابتعاد عن المؤلم والمؤذي فهو يبحث عن السعادة ويتجنب أسباب الشقاء فارتباط السلوك البشري بطلب اللذة وتجنب الألم هو من أبرز حقائق الطبيعة البشرية ولن نظفر بنتائج ملائمة من التربية والتعليم والتدريب حتى نصل بالدارسين والعاملين إلى لذة المعرفة ومتعة المهارة لأن الدارس لا يحرص على طلب المعرفة إلا إذا كان يستمتع بالتحصيل أما إذا كان يدرس اضطراراً من أجل الشهادة أو الوظيفة فإنه لا يستطيع إجبار عقله على الفهم ويجد صعوبة شديدة في إلزام ذاكرته بالحفظ لذلك فإن المعرفة لا تمتزج في نفسه وإنما تبقى شيئاً طارئاً غريباً عن ذاته وملصقاً بها فتنسلخ المعلومات والحقائق المعرفية فور الانتهاء من أداء الامتحان..
إن إغفال مبدأ اللذة والألم في حياتنا العلمية والعملية قد طبع سلوكنا العلمي والعملي بالكلال والضعف فإذا كان الدارسون يجدون عُسراً في التلاؤم مع المقررات المدرسية فيكتسبون بهذا العُسر كره الدراسة والعزوف عن المعرفة فإن حالهم مع الأداء المهني ليست حالة أفضل لأنهم لم يتربَّوا على تذوق الإنجاز ولا الاستمتاع بالمهارة ولم يتمرسوا بالعشق اللذيذ للأداء الجيد والعمل المتقن مع أن قيمة كل إنسان بما يُحسن..
إن الدارسين في المجتمعات العربية يعايشون الدراسة كُرهاً فتبقى أذهانهم موصدة أمام ما يراد منهم تجرعه قسراً إن العقل لا يمكن اغتصابه وإنما يمكن استمالته ليفتح نوافذه وأبوابه ويمتص ما يراد منه فهمه واستيعابه فهو إذا أحب المادة استوعبها بسهولة أما إذا أريد إرغامه على الاستساغة فإنه يوصد أبوابه وإذا أرغمت الذاكرة على الحفظ فإنها بعد الفراغ من المهمة تتخفف سريعاً من محتوياتها النكدة فتندلق منها بسرعة..
إن عجزنا عن توثيق علاقة الدارسين بالعلم وإخفاقنا في تحبيب العاملين بالعمل ناجم عن اغفال الطبيعة البشرية فالإنسان ليس مادة يجري قسرها وتطويعها وإنما هو نفس تحب وتكره وتقبل وتدبر وتنجذب وتنفر ولا يمكن استثمارها إلا بمعرفة مفاتيحها ومبدأ اللذة والألم من أهم هذه المفاتيح..
إن الذين اكتشفوا لذة المعرفة وتعرفوا عليها وعاشوا بين مباهجها يواصلون البحث طول حياتهم ويقضون أمتع أوقاتهم مع مصادر المعرفة فلا يعتريهم الملل ولا السأم ويَرءثُون للذين يضيقون بالوقت ويحتويهم السأم والملل بسبب البدايات العسيرة التي واجهوها في أول لقاء لهم بالمعرفة فنشأ فيهم كره لها وتوترت علاقتهم بها لذلك يتوقفون عند بوابة الدخول التي لاتنفتح إلا بصعوبة فلا يصلون إلى مباهج المعرفة ويظلون جاهلين بها ومحرومين منها ويبقى بينهم وبينها حواجز نفسية عميقة أما الذين اكتشفوا هذه المباهج فإنهم يجدونها غاية في ذاتها ووسيلة لغايات أعظم وأدوم وهم في بحثهم الدائم لا يسعون لشهادة ولا يبحثون عن وظيفة ولا يتطلعون إلى ترقية وإنما المعرفة ذاتها مغنم عظيم ولذة عزيزة وغزيرة وبهجة مستمرة ومتجددة..
وكذلك الذين وجدوا لذة الإنجاز ومتعة المهارة المهنية يواصلون الكدح اللذيذ دون أن يصابوا بالملل أو التعب أو الضجر أو السأم لأن العمل يفيض من نفوسهم فيضان الماء من النبع الفائر..
إن جهلنا بمفاتيح الطبيعة البشرية قد فوت علينا الكثير من الفرص وأعمانا عن الكثير من الآفاق وكبدنا الكثير من الخسائر وأضاع علينا المديد من الوقت وأدى بنا إلى الكثير من الإخفاقات وامتدت آثار ذلك إلى كل جوانب الحياة الفردية والاجتماعية في طول البلاد العربية والإسلامية وعرضها..
إن الإنسان لا يستطيع الاستفادة من الطاقات الكامنة في ذاته حتى يتعرف عليها ويعرف كيف يُحركها ويستخرج أفضل ما فيها كما أنه لا يستطيع التعامل مع الآخرين بوئام ومهارة وانسجام حتى يتعرف على الطبيعة البشرية ويدرك كيفية استجاباتها وكما تقول عالمة النفس الأمريكية هيلين شاكتر: ".. إن كلاً منا مهتم بنفسه وكثيراً ما تتملكنا الحيرة عندما نحاول تفسير مشاعرنا وأفعالنا إننا في غالب الأحيان لا نعرف عن أنفسنا إلا النزر اليسير وبينما تكون نفسك هي موضوع اهتمامك كله فإنك أقل إلماماً بها من أي موضوع آخر إن ذلك يبدو غريباً لكنه هو الواقع.." وإذا كان المتأمل والمهتم والباحث يشعر بالحيرة إزاء هذا التناقض فإن أكثر الناس لا يشعرون بهذه الحيرة ولا يسعون للتعرف على ذواتهم ولا فهم دوافعهم ولا محاولة إدراك المجاهل الواسعة والعميقة في نفوسهم فيظلون عمياناً يخبطون خبط عشواء وتبقى امكاناتهم كامنة ومعطلة ويطفو على السطح أسوأ ما فيهم لأن هذا الأسوأ يأتي تلقائياً ولا يتطلب أي مجهود مقصود فالجهل حاضر دائماً أما العلم فيتطلب مجهوداً استثنائياً والفوضى قائمة دائماً أما التنظيم فيحتاج إلى جهد استثنائي وهكذا كل شيء حسن يحتاج إلى جهد أما الأشياء السيئة فهي حاضرة وتلقائية..
وإذا كان جهل الفرد بطبيعته يحرمه من استثمار إمكاناته ويتيح لسوءاته أن تطفو على السطح فإن جهله بالطبيعة البشرية عموماً يستبقيه عاجزاً عن حُسن التعامل والتفاعل مع الآخرين وكما تقول هيلين شاكتر: ".. يلي اهتمامنا بأنفسنا اهتمامنا بغيرنا من الناس ومع هذا فغالباً ما نجد أن معلوماتنا عن الناس هي من القلة بحيث لا تمكننا من أن نعرف لماذا يتكلمون أو يتصرفون كل بطريقته الخاصة إننا لا نعرف الشيء الكثير عن الناس كشخصيات متباينة مختلفة ولو أننا عرفنا لكانت معاملتنا للناس أيسر وكنا أكثر توفيقاً ونجاحاً إن معرفة الإنسان لنفسه على جانب عظيم من الأهمية ومعرفته لغيره من الناس لا تقل عنها أهمية وكلما ازداد علمه بأسرار شخصيته ووسع إدراكه لغيره وتعرفه على أساليبهم ومميزاتهم أصبح أكثر توفيقاً في تعامله مع الناس.." إن سوء التعامل الشائع وانتشار المشاحنات بين أقرب الناس وتفاقم حالات الطلاق بين الأزواج وتوتر العلاقات على كل المستويات والإخفاق في الدراسة والفشل في العمل بل والحروب بين الشعوب والنزاعات بين الفئات والطوائف والأمم هي في الغالب ناشئة عن الجهل بالطبيعة البشرية وعدم التعرف على مفاتيح الخير فيها وجاهزية الشر في تلقائيتها..
إننا نلاحظ بوضوح شديد فتور العلاقة بيننا وبين المعرفة ونرى التلاميذ يمزقون كتبهم المدرسية بعد الفراغ من الامتحانات ورغم ذلك فإننا نستمر في التعامل مع الدارسين بنفس الأسلوب الذي دفعهم إلى النفور من العلم وكره الدراسة ومقت ما يرمز إليهما ومع أن الظاهرة عامة فإننا لم نحاول أن نتعرف على السبب العام الذي أفرز هذه النتيجة المفجعة العامة ولو نحن بحثنا في أعماق الطبيعة البشرية لوجدنا أن هذا النفور ناجم عن إهمال مبدأ اللذة والألم الذي يتحكم بالطبيعة البشرية ويحدد لها اتجاهات النشاط وينتهي بها إلى الحب أو الكره وإلى الإقبال أو الإعراض وإلى النفور أو الانجذاب إن مبدأ اللذة والألم هو الفاعل القوي الذي يرسم الاتجاهات وهو المحرك الدائم الذي يولد الاهتمامات وهو الرحم الذي تتخلّق به عواطف الحب والكره وهو الإطار العام الذي تتكون به عادات الفعل والكف ولكننا قد غفلنا عن هذا المبدأ الأساسي الذي نخصب أو نجدب من خلاله وبسبب هذه الغفلة حصدنا القحط العلمي والتصحر العملي والكلال المهني..
إن الدارسين يقضون ثلث أعمارهم على الأقل في مواصلة التعلم ومع كل هذا الامتداد الزمني فإن النتائج في الغالب لا تتناسب أبداً مع هذا التفرغ الطويل المصحوب بالعبء الثقيل على الأفراد والمجتمعات وحين يلتحق الخريجون بالعمل فإن أداءهم في الغالب يكون ركيكاً وبعيداً عن المهارة والإتقان وتبقى علاقتهم بالعمل علاقة فاترة وضجرة ومشحونة بالملل والسأم والكلال لأنها ليست علاقة حب واستمتاع وإنما هي علاقة كره واضطرار..

وفي الجانب الاجتماعي نفتقر أشد الافتقار إلى الاعتدال والتوازن والنضج لأننا نجهل ذاتنا ونجهل طبيعة الآخرين فنندفع في المسايرة العمياء أو المنابذة الهوجاء أو النفاق الذليل..
إن توتر العلاقات بين الأفراد والأسر والفئات والمجتمعات والأمم ناجم في الغالب عن الجهل بالطبيعة البشرية فالناس في معظم الحالات لا يفطنون للدوافع الحقيقية لتصرفاتهم ويتوهمون أنها صادرة عن الإدراك والتعقل ويرتكبون من الحماقات والسوءات ما تقشعر الأبدان لهوله وفظاعته ويغفلون غفلة مطبقة عن حقيقة أن مبدأ اللذة والألم هو الذي يحركهم ويوجه نشاطهم ويشغل تفكيرهم فكل حركة هي لتحقيق نفع عاجل أو آجل أو لدفع شر واقع أو متوقع..
والمعضل أننا لضيق ثقافتنا فإن أذهاننا حين تذكر اللذة لا تتجه إلا إلى لذة الجنس مع أن الجنس لا يستغرق سوى لحظات قصيرة ومتقطعة من عمر الإنسان وهي لذة تافهة إذا قيست بملذات العقل والروح أو متعة النفس والوجدان فليس أعظم من لذة الإيمان وليس أطول من سعادة اليقين.
يقول ابن تيمية: من لم يدخل جنة الدنيا لن يدخل جنة الآخرة فلذة الإيمان لا تعدلها أية لذة أخرى ومتعة مناجاة الله تقصر دونها كل المتع . وقد قال أحد العلماء الذين عرفوا مباهج العقل والروح: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف!!
وبمقدار اتجاه الأذهان للمتعة الجنسية الخاطفة حين تُذكر اللذة فإنها تتجه أيضاً حين يُذكر الألم إلى الآلام الجسدية مع أن الآلام النفسية أكثر وأدوم وأقسى وهي التي تؤثر تأثيراً قوياً على مسار الحياة إن الإنسان يموت كمداً وحزناً وهو أحياناً لشدة ما يعانيه من الكرب النفسي قد يتمنى الموت بل إن غير المؤمنين يفعلون ذلك بالانتحار:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً
وحَسءبُ المنايا أن يكُنّ أمانيا