انتقام الوحش

…ومرّت الأيام وطاهرلایعود إلی القریة إلاّ وفي جعبته ذيل خنزیر أو أكثر،

لكنّ شبح الخنزیر الأشهب لم یبرح مخیلته، ولطالما رآه في النوم وهو یتصارع

معه…… و ذات یوم جاءه أحد المزارعین مهرعا :

- طاهر … طاهر….!

(الخنزیر الأ شهب ابزرعك

طاهر: سبحان الله … هاذ الوحش عجیب. لازم اگطع ذیله، وإلاّ یگطع رگبتی.)

فعمد إلی بندقیته وخنجره وركب فرسه لیلحق بالخنزیر، لكنه عندما وصل

إلی حقله المتصل بهور «امریبي »، رأی الخنزیر یدخل في جوف الهور

وهو رافع ذيله، فقال غاضباً : والله يا هذا الذيل إن شاء الله أگطعه.

***

وذات یوم أخذ طاهر مسحاته (رفشه) وعمد إلی حقله فدخل في بطن

الساقیة (النهر الصغیر) لیعمِّق قاعها ویزیل الرسوبات عنها. كانت

الساقیة عمیقة وکانت حافتاها مرتفعتین، فلم یعد طاهرعندما ولجها،

باستطاعته أن یـــری حوالیه.

وفيما كان منهمكاً بعملیة التنظیف ، إذ انهال فوقه جسم عظیم هائل،

وإذا بالمسحاة تطیر من يده إلی خارج النهر!

وفي الوهلة الأولی ظن أنّ حافة النهر قد انهارت علیه، لكنه سرعان

ما انتبه إلی الخنزیر وهو یكيل له الطعنات بأنيابه الحادة، فلم یكن بوسع

طاهر إلاّ أن یمسك بعنق الخنزیر بقوة، لكن ذلك الوحش الكاسر كان

غاضباً فراح یدیر رأسه يمیناً وشمالاً فيرفع جسم طاهر معه لیرتطم

بحافتي النهر، لكن طاهراً كان قد أحكم الشد علی عنقه بكل ما أُوتي من

قوة، وكان یعلم أنّ حیاته معقودة بتلك الحلقة التي عقدها بذراعیه القویتین

علی تلك العنق اللعینة.

وفي اللحظة التي كان طاهر يرى فيها شبح الموت مخيماً عليه ، رفع رأسه

إلی السماء وثبّت قدمیه بحافة النهرللحظة وجمع كل ما تبقى لديه من قوة

وصاح بصوتٍ هائل :علي..ي..ي..علي..ي…ي…….

وراح صوت طاهر یدوّي بین الهوروالحقول، فسمعه المزارعون فأهرعوا

باتجاه الصوت، فشاهدوا طاهراً وهو ماسك بعنق الخنزیر، والخنزیر تارة

یضرب به حافة النهر، وأخرى یضربه علی سطح ماء النهر الذي اختلط

بالأوحال. فأخذ المزارعون یتصارخون بأصوات عالیة: هو…. هو….هو……

فترك الخنزیر طاهراً وانحدر في وسط النهر راكضاً نحو الهور.

اجتمع المزارعون حول طاهر وهو مغشيّ علیه، فأخرجوه من بطن النهر

ومدّدوه علی الأرض. ثم أشاروا إلی أحدهم أن یمتطي فرسه لیخبرأهل القرية.

كانت الدماء والأوحال قد اختلطت علی جسم طاهر، لكن النزیف كان یدلهم

علی أماكن الجراح.

وصل الفارس مهرعاً ینادی: – طاهر درَّعه الخنزیر…طاهر كتله الخنزير .

أبي : استر یا رب، استر یا رب، … زامل إسرع شد لي علی الفرس.

كان أبي قد أمسك بلجام الفرس وهـَمَّ أن یركب، فتعلقت به وقلت:

- بویه.. بويه.. خل أمشي ویاك.

ركب دون أن ینطق بشيء والحزن قد تملكه، ثم مدّ یده إليَّ فأردفني خلفه.

كان یعلم أنني احب طاهراً ایضاً، كلنا، كل بیتنا كان یحب طاهراً.

لم تكن المسافة طویلة، فوصلنا بعد بضع دقائق.

أبي : اجمعو گصب وبردي ابسرعه، اوشیلوه للنزل (القریه).

وأسرع جماعة فاقتطعوا القصب و البردي من الهورالقریب من الحادث،

ثم فتلوا من القصب حبالاً، فمدوها على الأرض ووضعوا كثیرا من القصب

علیها، ثم رفعوا طاهراً ومددوه علی ذلك القصب المفروش، ثم عقدوا الجبال

علیه و وضعوا تحته عصیاً و رفعوه علی اكتافهم.

كان الحزن یصرخ في عیون اهل القریه ، اما أبي فكاد انْ یتفجر حزناً

لولا التجلد.

جاءوا بطاهر الی بیته و مسحوا عنه الاوحال والدماء، أمام البيت ، فاجتمع في

ذلك الیوم جمیع اهل القریة و لحزن یعصرقلوبهم.

صاح أبي:سرعه حضرو مشحوف(زورق)،ناخذه للدكتر، ناخذه للحفاییه

(الخفاجیة)، البسیتین مابیها دكتر یگدرعلی هاي الحاله.

***
بقي أهل القریه تلك اللیلة ساهرین غارقین في الحزن داعین لطاهر بالشفاء.

كانت المسافة بین قریتنا (ابوچلاچ) والخفاجیة، اكثر من عشرین كیلومتراً،

وعلی هذا یكون وصول الزورق الی مدینه الخفاجیه مع طلوع الشمس.

لكن القدرغيـّـَر ذلك التقدیر« وتقدرون وتضحک الأقدار»،إذْ رسی الزورق

مع الفجر أمام بیت طاهر لیسلمهم جثمان ذلك البطل.

كان الفلق قد مدّ علی القریة ستاراً أحمر، إذْ سمع اهل القریه الصراخ فعلموا

أن طاهراً قد مات فاهرعوا.

كنت في اول من وصل الی بیت طاهر، و كنت ابحث عن أبي فوجدته قد تنح

ی قلیلاً عن الناس جالساً علی حافة النهر. و رایت كتفيه تتحركان بشدة،

فعرفت انه قد اجهش بالبكاء علی صدیقه و معتمده و مؤتمنه.

***
وانشغل جمعٌ بنصب الصیوان (الخیمة) فانتصب علی شاطیء نهر الكرخة عالیاً

طویلاً كانه قطعة جبل اذا ما قیس ببیوت القصب من حوله. فازداد المشهد هیبة

وإثارة،مما جعل «صیهود» شقیق المتوفي، ینفعل أكثرفاكثر، فقام ینعی أخاه

و یرثیه بابیات شعریة و بصوت شبحي حزین، ولا أدري إن كانت الأبیات له

اولغیرة، لکنني لن أنسی ذلک المشهد ما دمت حیا.

كان صیهود رجلاً كهلاً طویل القامة رشیقاً ذالحیة بان فيها بعض الشیب، مرتدیا

جلباباً(دشداشة) أسود، وعلیه سترة رمادیة اللون و فيها خطوط بیضاء ، معتمراً

كوفية لندنیة(بیضاء بنقوش مسلسلة سوداء). وكان يتردد بین الخیمة و ساحل

النهر،مادّاً ذراعیه إلی الأمام یميل بهما یمیناً و شمالاً، یردد تلك الابیات یتخللها

رثاءً منثورا معاتباً الدهر والمنایا متوعداً بالثار. وقد أبكی جمیع الحاضرين.

وضعوا جثمان طاهر في مثواه الخیر، وودعناه بالدعاء والدموع و عدنا إلی

القریة.

وأقيم مجلس العزاء ثلاثة ایام في تلك الخیمة وخلالها كان أهل القریة

المستطیعون یعدون الطعام للضیوف.

و في الیوم الثالث، استعد المجلس لأداء مراسم «الإحسان» ، اي الإعلان

عن اختتام مجلس العزاء بألفاظ خاصة يلقيها كبيرالقوم مع تقدیم صلة،

وهي عبارة عن قطعة قماش ملفوفة بالقماش الابیض. دعا أبي، صیهوداً

لأنه كان كبیرالأسرة. فاجلسه قبالته و خاطبه بكلمات التعزیة و قدم له

الإحسان(الصلة) ثم دعا الحلاق ،فقام و جلس قبالة صیهود، فطلب أبي

من صیهود أن یحلق لحیته، و تلك كانت العادة، علی أن یقوم الحلاق بحلق

محاسن ولي المیت في الیوم الثالث.

فقال صیهود: انا ممنون منك ومن الجمیع. بس سامحوني من الزیان ،انا

حلفت ما ازیّن (أحلق) لحیتي لما آخذ ثارأخوي طاهر.

فوجيء الحاضرون بكلام صیهود، و راحوا یفكرون في من هو القاتل

أوالمسبب . لكنهم سرعان ما انتبهوا الی قصده، فلم یتفوه أحد بكلام

وساد المجلس سكوت حزین.

و في الیوم الرابع دخل صیهود المضیف و كان أبي و قلیل من المزارعین

جالسین، فسلم علیهم، فحياه الجمیع ودعاه أبي أن یجلس قریباً منه.

أبي : رحم الله من یقرأ سورة الفاتحة المباركة علی روح المرحوم طاهر.

قـُرأت الفاتحة ثم سكوت قصیر،ونظر أبي الی صیهود فرای علی وجهه أمارات

العزم والشدة فقال: ها صیهود اشلونك؟ خاف محتاج شي؟

– خیرك زاید، ماقصرت، أنا یای اشكرك علی كل شی، انت النا ابو واخو.

بس أنا طالب منك طلبه.

- گول صیهود، إن شاء الله طلبتك مگضیه.

- ارجوك ترخصني آخذ ثاراخوي طاهر.

- صیهود، انت اش خیرك؟ مِن مَن تاخذ ثارك؟ المرحوم هو تقبل هاي

الشغله ولا واحد لحه علیها، حتی انگول افلان مسبب.

– لا ما هاذ قصدي، قصدي آخذ ثاري من الخنزیر، من الاشهب، ارجوكم

ارخصوني علی كتل الخنازیر حتی افلوس هم ما ارید،بس خلوني اشفي گلبي.

- حگك صیهود، گلبك محترگ على طاهر،وطاهر يستاهل،وترا انت مثل

المرحوم طاهرعزیزعدي ،وما ارید ایصیرعلیك شي، لیش ما اتعوف هل

طلا به هاي اوتناساها.

- لا لا، ارجوك ارخصني.

أدار أبي وجهه نحو الجالسین و قال: ها یا جماعه شنهو رایكم؟

قال رجل طاعن في السن : إحنا أوّل او تالي انرید واحد یستمر ابكتل

الخنازیر، واذا صیهود هو راید، هاي الشغله الاحسن اترخصه، والراي رایك.

- زین، صیهود، انت مرخوص، بس خل بالك، وآنه ما ني سامع عنك صایود؟

- آنه جنت اطلع و یه المرحوم او تعلمت الصید .

- زین، توكل علی الله .

***
و راح صیهود من توّه الی بیت اخیه، فاخذ البندقیة، ثم عمد الی الهورفركب

الزورق الصغیر و راح یتمرن علی حشو البندقیة و الرمِي بها والسیطرةعلی

الزوزق الضیق الصغیر الذی كان یحتاج مهارة كافية، إلی أن اطمأن علی

كل شيء. و راح یتجول ما شیاً في الحقول متفحصا آثارالخنازیر بعد ان

ذهب الی مكان الحادث و تفحص آثار حافرالخنزیرالاشهب وأخذ یقیسه

بحوافرالخنازیرالأخرى،فوجده أكبر من حوافر الخنازير الأخرى فعرف

ما فيها من فروق دقیقة ثم تتبع كل آثارالاشهب التي وجدها في مكان

الحادث، والطریق الیه فمحاها كلها إلا اثراً او اثرین، لیعرف اذا ما عاد

الاشهب الی المكان.

و راح یجوب الأهواروالحقول واستطاع ان یعود للقریة ببعض ذيول

الخنازیر،وكان یترصد الفرصة التی یری فيها الاشهب.

و كان قد اشتری بندقیة أخری من نفس النوع لتكون لدیه الفرصة الكافيه

في التصویب الثاني.

و مرت الأیام واللیالی وصیهود لا یقرّله قرار، وذات یوم ذهب الی مكان

الحادث فوجد آثاراً جديدة فظن أنها للاشهب ، ولكی یطمان ذهب للاثرالنمودجي

فوجد الاثار الجدیدة مطابقة له، فأيقن أن الاشهب، مازال یمربذلك المكان، فقال

في نفسه:

- هاذا المنعول بعده ایدورثار، لكن آنه له. وراح یبنی عِرزالاً قویا على أعمدة

من جذوع اشجارالغرب الضخمة، فوق متن ذلك النهر (الساقیة) التي قتل فيه

طاهر.وراح صيهود یجلس علی ذلك السریرالمرتفع طول اللیل .

و في احدی اللیالي المقمرة كان صیهود جالساً علی عرزاله و بندقیتاه محشوتان

امامه وهو ینظرحوالیه، وقد مـرّ من اللیل ثلثاه ، و كاد صیهود أن یغط بالنوم

إذ رأی شبحاً آتیاً من جانب الهور، فانتظر حتی قرب منه، وإذا هوا خنزیر،

وانبرى الخنزیر یثیر أرض الحقل القریب من مكان الحادث بنابیه ويدم

رالزرع بيديه ورجليه و لم یعبأ بما یجري حوالیه. فأخذ صیهود بندقیته

بيده و وضع الأخرى في كتفه ونزل من العرزال بهدوء و راح یزحف

نحو الخنزیرعلی مرفقیه إلی أن اقترب منه مرمی حجر، والخنزیرمنهمك

بالتخریب فتابع صیهود الزحف الی ان صار قریباً منه فسدد بندقیته بعد أن

وضع الثانیة أمامــه، وضغط علی الزنــــاد

وإذا الخنزیردارحول نفسه ثم سقط علی الارض، لكنه سرعان ما قام ینظر

حوالیه فظغط صیهودعلی زناد الأخری فسقط ولم یقم.

وانتظر صیهود لحظات والخنزیرواقع علی الأرض ، فرفع صیهود يديه الی

السماء شاكراً ربه على ذلك الإنتصار.

و بعد أن اطمأن من سقوط الخنزیر، مشى نحوه و خنجره بیده حتى وقف

عليه فوجده جثة هامدة، كانت الرصاصات الجاربال، التی أعدها هو بنفسه

قد فعلت فعلها ، فاشعل صیهود مشعلا و راح ینظرالی الخنزیر فإذا هو

الأشهب ،فشكرالله . ثم مدّ خنجره لیقطع ذنَبَه، لكنه قال مع نفسه: لا..لا.

و في صباح ذلك الیوم كان رأس الخنزیرأمام بیت المرحوم طاهر والناس


شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

Pages