لأمن الغذائي في الإسلام
لقد لفت القرآن الكريم أنظار البشرية إلى أهمية الغذاء في حياة الأمم والشعوب ، وذلك من خلال ربطه بالأمن والاستقرار السياسي. وقد تجلى ذلك المعنى من خلال سورة قريش، حيث أمتن الله عز وجل على قريش بما أفاء عليهم من نعمة الأمن الغذائي { الذي أطعمهم من جوع} ونعمة الأمن والاستقرار السياسي {وآمنهم من خوف} وجعل ذلك من النعم العظيمة التي تستحق الشكر والعبادة لله عز وجل ولا يجوز أن تقابل بالنكران { فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} قريش (4) .
ولم تغفل السنة النبوية عن ذكر أهمية الأمن الغذائي في حياة الفرد والجماعة ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ركنا ثالثا من أركان الحياة الآمنة المستقرة " من أصبح منكم اليوم آمنا في سربه معافا في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بما فيها" رواه الترمذي عن عبيد الله بن حفص الانصاري. كما تجلت نظرة الإسلام إلى الأمن الغذائي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من خلال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنشاء سوق خاص بالمسلمين وذلك عند قدومه المدينة ، حيث كان سوق المدينة محصورا بأيدي يهود ، مما يشكل تهديدا لأمن المسلمين الاقتصادي والغذائي، ومن ثم السياسي ، وقد عمل الإسلام على وضع الأسس النظرية لتحقيق الأمن الغذائي من خلال حث النبي صلى عليه وسلم على الزراعة وإعمار الأرض وإحياء الموات من الأرض بالزراعة " من أحيا أرضا مواتا فهي له " رواه الترمذي ، " إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل" رواه أحمد عن أنس بن مالك.
فالأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من الغذاء شرط لازم لحفظ كرامة الأمة وصيانة وحدتها وحماية ديارها ولدرء تحكم الاعداء في مقدراتها وتدخلهم في قراراتها وسياساتها. ولأدل على ذلك صحة هذه النظرية مما نعايشه في هذا العصر، إذ نتج عن العجز في تحقيق الأمن الغذائي لدى المسلمين إلى اعتماد والبلدان الاسلامية على الدول الغربية ، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ، في توفير غذائها الأساسي (وخاصة القمح)، والذي أدى بدوره إلى استلاب كرامة الأمة وارتهان ارادتها تحت ضغط الدول المصدرة للغذاء. ويقدر حجم الواردات إلى العالم العربي (لوحدة) من الغذاء في عام 2000 م بـ 35 مليار دولار، في الوقت الذي تقدر به المساحات المزروعة في العالم الاسلامي بنحو 400 مليون فدان، وهي تشكل 11% من مساحة الأراضي المزروعة في العالم، وفي الوقت الذي تقدر به نسبة العاملين بالزراعة في الدول النامية (ومعظمها من الدول الإسلامية ) بين 70 إلى 85% من مجموع القوى العاملة، في حين لا يتعدى هذا الرقم 4 إلى 10% في البلدان المتقدمة. () ومن المفارقات المحزنة والمفجعة أنه في الوقت الذي يشكل فيه سكان الولايات المتحدة الأمريكية 7% من سكان العالم، فإنهم ينتجون 50% من الغذاء في العالم.
وتعد سورة يوسف – عليه السلام – من أكثر السور وضوحا ودلالة في عرض نظرية الأمن الغذائي، وقد تجلى ذلك في قصة سيدنا يوسف – عليه السلام- مع عزيز مصر والرؤية التي رآها في منامه. فقد أشارت الآيات الكريمة إلى أهمية حفظالغذاء وتخزينه بطرق مناسبة تمنع فساده، وإلى أهمية الانتاج الزراعي في توفير الأمن الغذائي، وإلى ضرورة ترشيد الاستهلاك الغذائي، وعدم الاسراف به ، بما يتلاءم مع واحتياجات السكان ، وبما يمنع حدوث المجاعة ونقص الغذاء { قال تزرعون سبع سنين دأبا، فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ، ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ، ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} يوسف (47-49).
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى السبق الحضاري والاعجاز العلمي في الآيات المذكورة، إذ اشارت إلى حفظ الغذاء في سنبله . وقد دلت الدراسات العلمية الحديثة أن الحفظ بهذه الطريقة يعد من أكثر الوسائل نجاحا ونجاعة في حفظ القمح ، حيث تعمل القشور المحيطة بحبوب القمح في السنبلة على منع مهاجمة القمح من قبل الحشرات الضارة والمؤثرات الجوية الخارجية. ()
ضبط جودة الغذاء في الإسلام
يعد الغذاء من أكثر المواد عرضة للفساد، نظرا لما يحتويه من الرطوبة والعناصر الغذائية اللازمة لنمو الأحياء الدقيقة، وذلك في حال عدم تخزينه في ظروف جيدة .
وقد احتوت بعض آيات القرآن الكريم إشارات ضمنية إلى مشكلة فساد الغذاء واحتمال تغير صفاته من لون أو طعم. فقد ورد في سورة البقرة في الآية (259) في معرض قصة صاحب القرية المهجورة {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} ، وفي قوله تعالى : {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } محمد (15) . فأسن الماء وتغير طعم اللبن كلها مؤشرات على فساد الغذاء.
وقد شدد القرآن الكريم على ضرورة إحسان اختيار الغذاء والتأكد من خلوه من الآفات عند التصدق به للفقراء والمحتاجين ، فقال تعالى : { يا ايها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما رزقناكم ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } البقرة (267) . كما اشار القرآن الكريم إلى أن الغذاء المتوفر يتفاوت في مدى جودته وسلامة وصلاحيته ، ووجه إلى الاهتمام باختيار الغذاء المتناول، وذلك في قوله تعالى: { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا} الكهف (19، 18).
أما السنة النبوية ، فقد حفلت بالأدلة على ضرورة الحفاظ على سلامة الغذاء وجودته ومنع غشه والتغرير به ، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر ذات يوم على رجل يبيع طعاما، فوضع صلى الله عليه وسلم كفه الشريف أسفل منه فوجده مبلولا فسأل البائع عن ذلك فقال: أصابته السماء (أي المطر) ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من غشنا فليس منا " رواه مسلم وابن ماجة والدارمي، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ( وهو ما كان ظاهره يغري المشتري وباطنه مجهول) رواه الترمذي وابن ماجة واحمد والدارمي، كما نهى عن الملامسة والمنابذة (الشراء دون التعرف على السلعة المطلوب شراؤها).
وفي سيرة الخلفاء الراشدين ، كان في قصة صاحبة اللبن التي أرادت أن تخلطه بالماء خير دليل على حرص المسلمين آنذاك على عدم الغش، إذ كافأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنة صاحبة اللبن على رفضها الغش بأن زوجها من أحد أبنائه ، وكان أن خرج من نسلهما خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه.
صيام رمضان
الصيام عبادة قديمة فرضها الله عز وجل على أمة الإسلام كما فرضها على الأمم السابقة ، وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} البقرة (183).
وقد أثار الصيام انتباه ودهشة الأطباء منذ قديم الزمان، حيث ظل الصوم طريقة علاجية تتناقلها أجيال الأطباء. () ففي مرجع طب التبت الكبير " نشجوديش" في القرن السادس قبل الميلاد، خصص فصلا كاملا للصيام تحت عنوان " العلاج بالطعام" و " العلاج بالصوم" . وعرف المصريون القدماء الصوم ، وبشهادة هيرودوت (450 ق.م.) تبين أن المصريين القدماء كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر ، وكذلك الصوم الكبير لأكثر من شهر من كل عام . كما عرف اليونانيون القدماء فائدة الصيام فنادى (أبو قراط) باتباع الصوم لعلاج الكثير من الأمراض الباطنية والخارجية.
ومع إشراق شمس الإسلام على العالمين، فرض الصوم على المسلمين في السنة الثانية للهجرة، وأصبح بذلك الركن الرابع من اركان الإسلام . ويعرف الصيام في رمضان على أنه الإمساك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات منذ طلوع الفجر حتى مغيب الشمس () تعبدا لله عز وجل وتقربا إليه. كما يشمل الصيام كف الجوارح عن جميع الآثام والمعاصي ، فهو بذلك عبادة روحية وجسدية ترتقي بالإنسان في صحته وروحه وقلبه.
وقد عرف أطباء المسلمين الصوم كعبادة وعلاج في آن واحد ، فكان ابن سينا يفضل الصوم على الدواء ويقول : " إنه الأرخص" ، ويصفه للغني والفقير ، وإبان الحملة الفرنسية في مصر في القرن 18 م ، اتبعت المستشفيات الصيام كعلاج لمرض الزهري، حيث عدوا الصيام قاتلا للجراثيم المسببة للمرض. ()
ومع إطلالة القرن العشرين ، ومع تزايد وتطور أساليب البحث العلمي، فقد حاز الصيام في رمضان على جانب كبير من اهتمام الأطباء والباحثين ، نظرا لما يتضمنه الصيام في رمضان من تغير وتحول في نمط استهلاك الغذاء خلال فترة زمنية محددة ( 29-30 يوما) ، إذ يستدعي ذلك التغير حصول تحولات في مسارات الأيض والتمثيل في الجسم، وحصول تغيرات حيوية تؤثر على صحة الإنسان وجسمه بشكل واضح وملموس. وفيما يلي عرض موجز لأهم التغيرات الايجابية التي تنجم عن الصيام في شهر مضان:
(1) تأثير الصوم على الجهاز العصبي (التأثيرات النفسية والعصبية):
إن المتأمل في فلسفة الصيام في الإسلام يجد أنه لا يعدو عن كونه عملية تربوية تتم فيها تربية النفس وتهذيبها والارتقاء بها عن الولوغ والإغراق في إشباع الشهوات والغرائز، كما أن أدبيات الصيام وأخلاقه تلزم المسلم بالابتعاد عن مظاهر الغضب والانفعال ، عملا بقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل : اللهم إني صائم" متفق عليه. وهذا يؤدي بالمسلم إلى الشعور بالسكينة وطمأنينة القلب وانشراح الصدر، فتخرج النفس من ضيق وشدائد الحياة اليومية ومشاكلها ومن ضغوط الحياة وتعقيداتها ، إلى سعة الصدر وانشراح النفس والرضا، وهو ما يؤدي إلى شفاء وتحسن العديد من الإضطرابات والأمراض النفسية والعصبية مثل الاكتئاب والقلق والهوس. () وفي دراسة أجراها الدكتور درادكة في الأردن عام 86-1991 ، تبين أن نسبة الإنتحار خلال شهر رمضان المبارك قد انخفضت بشكل ملحوظ، وذلك بسبب تأثير الجو الإيماني والروحاني لشهر الصيام.
(2) تأثير الصيام على الجهاز الهضمي:
في شهر رمضان تقل حركة الأمعاء وتقل إفرازات العصارة الهضمية والمعوية وغيرها، وبذلك تطول فترة راحة الجهاز الهضمي وتتحسن الكثير من الأمراض المرتبطة بالجهاز الهضمي والتي من أخطرها السمنة ، والأمراض ذات العلاقة بالضغوط النفسية والعصبية مثل تهيج القولون والانتفاخات والتهابات المعدة المزمنة. () ومن أهم الفوائد التي يجنيها الصائم هي تخفيف الوزن والتخلص من الزائد منه. إذا اشارت العديد من الدراسات العلمية الحديثة إلى أن الصوم في رمضان يؤدي إلى التخفيف من وزن الجسم، وذلك بالرغم من الممارسات الغذائية الخاطئة السائدة في شهر رمضان والتي يتوقع أن تؤدي إلى زيادة الوزن لا تخفيفه. () وهذا التخفيف بدوره يحمي الإنسان من الكثير من الأمراض المرتبطة بالسمنة والتي من أخطرها ارتفاع ضغط الدم والسكري (النوع الثاني) والنقرس وانسداد الشرايين واحتشاء عضلة القلب.
(3) تأثير الصيام على الجهاز الدوري (القلب والشرايين):
يعمل الصيام في رمضان على خفض محتوى الدم من الكوليسترول الضار ورفع محتواه من الكوليسترول النافع، الذي يعمل بدوره على إزالة الدهون المترسبة على جدران الأوعية الدموية ، وبالتالي العمل على منع حدوث انسداد الشرايين ومنع حصول احتشاء عضلة القلب. كما ان القلب يرتاح عند الصوم إذ تنخفض ضرباته إلى 60 في الدقيقة . وهذا يعني أنه يوفر مجهود 28800 دقة كل 24 ساعة. ()
ومن أهم فوائد الصيام ، خاصة بالنسبة للمدخنين ، هي قدرة الصيام على التخفيف من كمية السجائر المستهلكة خلال اليوم ، بما سيفيد القلب والشرايين والرئة ويقلل من تعرضها للمواد السامة والمسرطنة الموجودة في السجائر . كما أن التأثير النفسي والتربوي للصيام يساعد الإنسان المردخن على الإقلاع عن التدخين واتخاذ القرار الحازم بذلك ويوفر له الإرادة القوية للإقلاع عنه.
ومن الآثار الإيجابية للصيام أنه يساعد على التخفيف من ارتفاع ضغط الدم عند المرضى المصابين به، إذ إن التقليل من كمية الطعام المتناول يقلل من تناول ملح الصوديوم، والذي يعد المسبب الرئيس لارتفاع ضغط الدم . فقد أكدت دراسة حديثة أن انقاص الوزن بمقدار 5ر4 كغم كان كفيلا يخفض ضغط الدم عند مرضى ارتفاع ضغط الدم المتوسط والمنخفض. ()
(4) الصوم وعلاج الأمراض:
بالاضافة على دور الصيام في علاج والتخفيف من أمراض السمنة وما يرافقها من أمراض ثانوية مثل ارتفاع كوليسترول الدم وارتفاع الضغط ، فإن لصيام رمضان دور في علاج أمراض أخرى مزمنة وشائعة بين الناس وخاصة في مجتمعاتنا العربية مثل النقرس ومرض السكري (النوع الثاني) . وسنتناول بإيجاز دور الصيام في رمضان في التخفيف من هذا المرض:
يعد مرض السكري من أكثر الأمراض شيوعا وانتشارا في العالم، وهو مع ذلك من أخطر الأمراض والتي قد تؤدي في حال تضاعفها إلى الإضرار بحياة الإنسان وتهديدها . ومن المعلوم أن مرض السكري، وخاصة النوع الثاني أو ما يسمى بسكري الكبار ، يرتبط ارتباطا وثيقا بالغذاء التي يتناوله الإنسان من حيث الكم والنوع.
وقد عرف الصوم كعلاج لمرض السكري ، واتبع ذلك في ألمانيا وأمريكا أواخر القرن الماضي وأوائل القرن العشرين، وكان يطبق على مرضى السكري في الحالات المتوسطة ، ويتضمن الإمتناع الكامل عن تناول الطعام لمدة 2-3 أيام () . وقد وجد فيما بعد أن هذا النوع من الصيام (الصيام الطويل) يؤدي إلى آثار صحية جانبية مثل ارتفاع محتوى بعض المواد الضارة في الدم . لذلك كان صيام رمضان صياما مثالثا بمنع حدوث مثل هذه الآثار الجانبية بسبب قصر فترة (16-19) ساعة / يوم ، ولأنه يسمح فيه بتناول الطعام بعد فترة الصيام .
وقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن 30% من مرضى السكري يمكن السيطرة على مرضهم بواسطة اتباع نظام غذائي معين دون استعمال أي من العقاقير كالإبر والحبوب . لذلك كان الصوم في رمضان ذو فائدة كبرى في السيطرة على مرض السكري.