قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) ﴾سورة الحشر .
هذه الآية يمكن أن يستدل بها على وجوب محاسبة النفس بعد أن الزمت بالنظر فيما تقدمه النفس لغد وهو كناية عن يوم القيامة وذلك :
1- أن الغد قريب لليوم الذي سبقه وكذلك القيامة قريبة للدنيا .
2- ويحتمل أنه عبر عن القيامة بالغد لأن الدنيا مهما طالت فعمرها قصير .
أهمية محاسبة النفس
فالآية تأمر الانسان أن يقدم ليوم القيامة الأعمال الحسنة وهو معنى المحاسبة للنفس ولينظر هل قدم خيراً حتى يستزيد منه أو قدم شراً حتى يستغفر الله ويتوب إليه مما ارتكب من مخالفات . وقد دلت الروايات الكثيرة على أهمية محاسبة النفس :
1- فقد روى الشيخ الكليني في كتابه الكافي بسند صحيح عن الإمام أبي الحسن الماضي ( والمراد به الإمام الكاظم عليه السلام ) أنه قال : ( ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإن عمل حسناً استزاد الله ، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه ) [1] .
الذي لا يحاسب نفسه متنكب ومخالف لطريق أهل البيت عليهم السلام ولم يكن معهم فإن ديدنهم محاسبة أنفسهم مثل ما يحاسب الشريك شريكه .
2- وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : ( إذا أراد أحدكم أن لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه : فلييأس من الناس كلهم ولا يكون له رجاء إلا من عند الله جل ذكره ، فإذا علم الله جل وعز ذلك من قلبه ، لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه ، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها ، فإن للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقداره ألف سنة ثم تلا قوله تعالى : ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [2] ) .
3- وعن أبي حمزة الثمالي قال : كان علي بن الحسين عليهما السلام يقول : ( ابن آدم إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك وما كانت المحاسبة من همك وما كان الخوف لك شعاراً والحزن لك دثاراً ، ابن آدم إنك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي الله فأعد جواباً ) [3] .
4- وعن أمير المؤمنين عليه السلام : ( من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر ومن خاف أَمِن ومن اعتبر أبصر ، ومن أبصر فهم ، ومن فهم علم ) [4] .
أهمية تقسيم الوقت
إن الوقت إذا كان مقسماً ومبرمجاً استفاد صاحبه منه وتمكن أن يقوم بواجباته ومهماته ويكون له عمل بارز ومثمر وقد أكدت الشريعة الإسلامية على لسان الأنبياء والرسل والأئمة على أهمية تقسيم الوقت ولا يُضيّع حقاً على حساب حق آخر فقد جاء في الحديث الذي رواه أبو ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب نفسه ، وساعة يتفكر فيها صنع الله إليه ، وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال ، فإن هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب وتفريغ لها .... ) [5] .
هذا الحديث يعرض لنا كيف نقسم وقتنا وبالأخص فيما هو مهم ولابد من القيام به وذلك كما يلي :
1- المناجات :
يجب على الإنسان أن يتوجه إلى الله سبحانه الذي خلقه وجعل العبادة والمناجاة أحد أسباب الخلقه إن لم تكن هي الهدف الوحيد ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ فيجب على الإنسان أن يفرد لمناجات مولاه ساعة من ساعات يومه إن لم يكن أكثر .
2- المحاسبة :
والساعة الأخرى المهمة في حياة الإنسان هي المحاسبة فهي بمثابة البرمجة لعمل الشخص وما لم تكن هناك برمجة فإنه لا يستفاد من المعلومات والمواد الموجودة لديه .
3- التفكر :
فإن التفكر في صنع الله ومخلوقاته من أهم أسباب التعرف على الحقائق الإلهية والإيمان به والتوكل عليه ، والتفكر عبادة من العبادات بل من أكبرها وأعظمها .
4- استعمال الحلال :
والساعة المهمة في حياة الإنسان هي إشباع غرائزه التي أودعها الله فيه من الجنس والأكل والشرب والقيام بوظائفه الاجتماعية والاقتصادية كل ذلك حسب الموازين الشرعية التي عبرت عنها الرواية ( بحظ نفسه من الحلال ) وهذه الساعة بمكان من الأهمية حيث أن هذه الساعة تصبح عوناً لتلك الساعات المتقدمة وما لم يقم بهذه الواجبات فإنه لن يتمكن أن يقوم بما تقدم من المناجات والتفكر والمحاسبة وغيرها ، فإن هذه الساعة :
أ- تريح القلب وتفرحه ويحصل لديه استجمام .
ب- تنقية القلوب وتفريغها عن كثير من الشوائب التي تحل فيها .
أهون الحسابين
كل إنسان لابد له من المحاسبة عاجلاً أم آجلاً والمحاسبة من أي نوع إذا كانت عاجلة فإنها سوف تكون أهون وأقرب للمعلومات بل والاعتبارات ، والإنسان في حركاته وسكناته لم يكن خارجاً عن هذا القانون الإلهي والاجتماعي والاقتصادي فإنه إذا أسرع وحاسب نفسه في الدنيا بل وفي أقرب الأوقات إليه من الليالي والأيام بل والساعات فإن المحاسبة العاجلة أهون من المحاسبة الآجلة ، لذلك ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله في وصيته لأبي ذر أنه قال : ( يا أبا ذر : حاسب نفسك قبل أن تحاسب فإنه أهون لحسابك غداً ، وزن نفسك قبل أن توزن ، وتجهز للعرض الأكبر يوم تعرض ، لا تخفى على الله خافية – إلى أن قال – يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه ، فيعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه ومن أين ملبسه أمن حلال أو من حرام ؟ يا أبا ذر : من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار ) [6] .
من شروط الإيمان
المحاسبة للنفس شرط من شروط الإيمان فلا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه وهذا واضح فإن من لم يحاسب نفسه لابد أن يكون عاصياً بل ويتمادى في المعاصي وهذا يخالف الإيمان فقد جاء عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه والسيد عبده ... ) [7] .
الانضباط في السلوك
إن الإنسان إذا كان منضبطاً في سلوكه من حركاته وسكناته وأفعاله وأقواله إن ذلك كله مما يخفف عليه عناء المحاسبة وشدتها وتشعباتها وإليك نبذة يسيرة مما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذر في وصيته التي رواها الشيخ الصدوق في كتابيه ( معاني الأخبار ، الخصال ) وجاء فيها :
قال أبو ذر : قلت يا رسول الله أوصني : قال أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله .
قلت : زدني ، قال : عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض .
قلت : زدني ، قال : عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشياطين وعون لك على أمر دينك
قلت : زدني ، قال : إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه .
قلت : يا رسول الله زدني ، قال : انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك .
قلت : يا رسول الله زدني ، قال : صل قرابتك وإن قطعوك .
قلت : زدني ، قال : عليك بحب المساكين ومجالستهم .
قلت : زدني ، قال : قل الحق وإن كان مراً .
قلت : زدني ، قال : لا تخف في الله لومة لائم .
قلت : زدني ، قال : ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك ولا تجد عليهم فيما تأتي مثله .
ثم قال : كفى بالمرء عيباً أن يكون فيه ثلاث خصال :
1- يعرف من الناس ما يجهل من نفسه .
2- ويستحي لهم مما هو فيه .
3- ويؤذي جليسه فيما لا يعنيه .
ثم قال : يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ، ولا ورع كا الكف ، ولا حسب كحسن الخلق ) [8] .
نسي نفسه
الآية الثانية من الآيات التي افتتحنا حديثنا بها قوله تعالى : ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ .
إن من يمارس المعاصي يكون بعيداً عن الله ويغفل عنه وينساه فإذا العبد نسي الله فإن الله سوف ينسيه نفسه وهذا من أعظم العقوبات الدنيوية وأكبر الخسارات الأخروية بل هي حقيقة البؤس والشقاء في الدنيا والآخرة والقرآن يعلن أن العبد إذا نسي الله وغفل عنه فإنه سوف ينسى نفسه ويغفل عنها .
( لأن نسيان الله يؤدي إلى انغماس الإنسان في اللذات المادية ، والشهوات الحيوانية من جهة ، وينسى خالقه وبالتالي فهو يغفل عن ادخار ما ينبغي له في يوم القيامة ) [9] .
وبما أن كل شيء في الوجود متعلق بالله ومحتاج إليه ولا غنى لكل الخلق عنه وله الوجود المطلق والعالم غير المتناهي كله له ، والإنسان أحد أفراد عالم الوجود الذي يحتاج إلى الوجود المطلق والقدرة الإلهية فإذا نسي الله ونسي صفاته وأسماءه وأفعاله معناه أنه نسي واقعيته وهويته الشخصية لأنها مرتبطة بالله سبحانه .
وقد فسرت نسيان النفس بأحد معنيين :
1- أن الذي ينسى الله لا يذكر من مصالحه الأخروية شيئاً والإنسان إذا نسي مصالحه الأخروية فيكون ناسياً لنفسه .
2- يوجد في الإنسان طاقة خيرة أودعها الله في الإنسان وعندما ينسى الله فإنه سوف ينسى تلك المصالح والأعمال الخيرة ونسيان تلك الأعمال هو نسيان للنفس لأنها ملتصقة بها وقد عبر القرآن الكريم في أكثر من مورد عن هذا بالخسران المبين قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ .
فمن ينسى الله فهو خاسر ومن ينسى نفسه فهو خاسر ومن ينسى مصالحه الأخروية فهو خاسر ومن يترك الأعمال الخيرية فهو خاسر وهكذا .
عدم محاسبة النفس
الآية تؤكد أن عدم المحاسبة سوف يؤدي إلى الغفلة عن الله وهي تؤدي إلى نسيان الإنسان نفسه . كما يصح أن يكون الأمر بالعكس فالغفلة عن الله تؤدي إلى عدم محاسبة النفس وهو خسارة كبرى كما تقدمت الروايات في ذلك .