ما سمي القلب الا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل والقلب هو ملك الجواح وسيدها











أسباب قسوة القلوب وعلاجها
القلوب بيد الله عزو جل يقلبها كيف يشاء، فعن النواس بن سمعان رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من قلب إلاَّ وهو معلق بين اصبعين من أصابع الرحمن: إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه، والميزان بيد الرحمن يرفع أقواماً ويضع آخرين إلى يوم القيامة" [الجامع الصغير للسيوطي رقم [8084]، ورمز له بالحسن. قال المناوي في فيض القدير جـ5/493: (قال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي..... كذلك فقد خرجه النسائي في الكبرى عن عائشة، قال الحافظ العراقي، وسنده جيد).]. ولهذا كان صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم عن الزيغ والزلل يكثر أن يقول: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" [مسلم رقم [2654].].
وما سمي القلب بذلك إلاَّ لتقلبه كما قيل:
ما سمي القلب إلاَّ من تقلبـــه فاحذر على القلب من قَلْب وتحويل
والقلب هو ملك الجوارح وسيدها، وبصلاحه تصلح الجوارح وبفساده تفسد: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
ومع ذلك قد يتأثر القلب ببعض ما تقترفه جارحة من الجوارح، فقد خرج الترمذي في سننه وصححه عن أبي هريرة يرفعه: "أن الرجل ليصيب الذنب فيسوّد قلبه، فإن هو تاب صقل قلبه" [الترمذي رقم [3334]، وقال: حسن صحيح.].
القلوب متفاوتة أشد التفاوت، ومتباينة تبايناً كبيراً، فشتان ما بين قلب المؤمن الصادق والمؤمن المخلط، دعك من قلب المنافق والكافر التي طبع عليها.




فقد روي مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وموقوفاً على ابن عباس وحذيفة رضي الله عنهما: "القلوب أربعة: قلب مغلوب مقفول عليه مطبوع عليه فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس لا ينتفع به صاحبه فذلك قلب المنافق، وقلب فيه إيمان ونفاق، مثل الإيمان كالبغلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كاقرحة يمدها القيح والدم فهما يتعالجان أيهما يغلب صاحبه فيأكله، وقلب كأن فيه سراجاً يزهر فذلك قلب المؤمن" [قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد جـ1/68: (رواه أحمد والطبراني في الصغير، وفي اسناده ليث بن أبي سليم)، ورواه الديلمي في الفردوس موقوفاً عن ابن عباس رقم [4697] واللفظ له، وقال محققه جـ3/235 _الهامش_: (جمع الجوامع رقم [11488]، الطبراني في الأوسط، وأحمد عن أبي سعيد، وصححه ابن أبي شيبة عن حذيفة موقوفاً، ابن أبي خاتم عن سليمان موقوفاً).].
فإنَّ القلب القاسي، أبعد القلوب عن الله عز وجل، فما المراد بالقسوة؟، وما أسباب قسوة القلب وصلابته؟، وما هي الأسباب المعينة على التخلص من هذا الداء العضال بعد توفيق الله سبحانه وتعالى؟.
هذا ما نود الإشارة إليه بحول الله وقوته.

القلب القاسي:
هو الذي نزعت منه الرحمة، وقابلية الهداية للذكرى والمواعظ، فهو الذي لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، فهو أشد صلابة وقسوة من الحجارة الصماء، قال تعالى في ذم بني إسرائيل: "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" [ سورة البقرة: 72.].
قال القرطبي رحمه الله في تأويلها: (القسوة: الصلابة والشدة واليبس، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والاذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما: المراد: قلوب جميع بني إسرائيل. وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته انكروا قتله، وقالوا: كذب) [الجامع لأحكام القرآن جـ1/462-463.].
"أوْ" في قوله تعالى: "فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً"، بمعنى الواو كما قال: "آثِمًا أَوْ كَفُورًا" [سورة الانسان: 24.]، "عُذْرًا أَوْ نُذْرًا" [سورة المرسلات: 6.].
ما ورد في ذم القلب القاسي:
لقد ذم الله ورسوله والمؤمنون القلب القاسي، وحذروا من قساوة القلب من ذلك بجانب آيات البقرة السابقة:
• قوله تعالى: "فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" [سورة الزمر: 22.].
• وقوله تعالى: "فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً" [سورة المائدة: 13.].
• وقوله تعالى: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" [سورة الحديد: 16.].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ ....."، إلاَّ أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض، ويقول: ما احدثنا؟. [صحيح مسلم.]. قال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه) [الجامع لأحكام القرآن جـ17/249.].


• وعن ابن عمر يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنَّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن ابعد الناس عن الله، القلب القاسي" [الترمذي رقم [2411]، وقال: حسن غريب. وقد ضُعِّف بسبب إبراهيم بن عبد الله بن حاطب كما قال الذهبي في ميزان الاعتدال جـ1/161.].
• وفي مسند البزار بسند ضعيف عن انس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أربعة من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا"، ذكره ابن الجوزي في الموضوعات [جـ3/625.].
• وقال مالك بن دينار: (ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب) [ذكره عبد الله بن احمد في الزهد صـ320 –انظر هامش (3)، جـ1/صـ260 من مجموع رسائل الحافظ ابن رجب، دراسة وتحقيق ابي مصعب طلعت بن فؤاد العجلوني.] .
أسباب قسوة القلب
لاشك أن أسباب قسوة القلب كثيرة، ولكن سنشير إلى أخطرها للحذر منها:
أولاً: الاكثار من الفضوليات، فضول الأكل، والشرب، والكلام بغير ذكر الله، والنظر، والسمع، والنوم، والمخالطة، والاهتمام بما لا يعني المرء... إلخ.
هذا من الأسباب الرئيسة لقساوة القلب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" [الترمذي رقم [2317]، وصحيح الترمذي للألباني، وقال: صحيح.].
وقال كذلك حاثاً على البذل والعطاء خاصة عند الحاجة: "من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له" [مسلم رقم [1728].].
فالانغماس في هذه الفضوليات، والسعي الحثيث في تحقيقها يورد الإنسان موارد الهلاك، ويؤدي إلى فساد القلب وقسوته.





ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله قاعدة نافعة: (فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ويستدفع به شره ويحترز به منه)، عشرة أسباب [انظر بدائع الفوائد له جـ2/171-276.] آخرها الإمساك عن الفضوليات، فقال: ([الحرز العاشر]: إمساك فضول النظر، والكلام، والطعام، ومخالطة الناس فإن الشيطان إنما يتسلط على بني آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة)، ثم شرع في تفصيل ذلك فليرجع إليه من شاء.
قال بشر بن الحارث: خصلتان تقسيان القلب؛ كثرة الكلام وكثرة الأكل.
وذكر المروذي في كتاب الورع، قال: قلت لأبي عبد الله –يعني أحمد بن حنبل-: يجد الرجل من قلبه رقة وهو شبع؟، قال: ما أرى.
وقال ابن رجب وهو يعدد أسباب قسوة القلب: ومنها كثرة الأكل، ولا سيما إن كان من الشبهات والحرام.
ثانياً: كثرة الضحك من أسباب قسوة القلب كذلك، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "..... ولا تكثر الضحك، فإنَّ كثرة الضحك تميت القلب" [صحيح سنن الترمذي للألباني رقم [2305]، وقال: حسن، الصحيحة [930]، تخريج المشكاة [17]، وقال الترمذي: هذا حديث غريب ..... والحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئاً – صحيح الترمذي للألباني جـ2/526.]، ولهذا لم يضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه إلاَّ في مرات محدودة، وكان غالب ضحكه تبسماً.
ثالثاً: كثرة الذنوب
قال تعالى: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ" [سورة المطففين: 14.].
لله در ابن المبارك القائل:
رأيت الذنوب تميت القلوب ويورث الـذلَ ادمانُها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
قال بعض السلف: البدن إذا عرى رقَّ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دموعه.
جاء في تفسير [الجامع لأحكام القرآن جـ19/259.] "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ": هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب، قال مجاهد: هو الرجل بذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه، ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه حتى تُغَشِّي الذنوب قلبه.
رابعاً: نقض العهد والميثاق مع الله عز وجل
قال تعالى: "فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً" [سورة المائدة: 13.].
فنقض العهود والمواثيق من علامات النفاق، كما صح بذلك الخبر: "وإذا عاهد غدر"، الحديث [متفق عليه، مسلم رقم [58].].
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (قال ابن عقيل يوماً في وعظه: يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهداً، فإنَّ الله يقول: "فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ") [رسالة ذم قسوة القلبل لابن رجب.].




قال القرطبي في تفسير قوله تعالى "وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً": (أي صلبة لا تعي خيراً ولا تفعله، والقاسية والعاتية بمعنى واحد) [الجامع لأحكام القرآن جـ6/115.].
أسباب زوال قسوة القلب، والتخلص منها
أسباب زوال القسوة والتخلص منها كثيرة ويسيرة لمن يسرها الله له، وسنشير إلى طرف منها [انظر رسالة ذم قسوة القلب ضمن مجموع رسائل ابن رجب جـ1/263-270.]:
أولاً: الدعاء، والتضرع، وسؤال الله عزو جل
السبب الأساس والعامل الرئيس لزوال قسوة القلب سؤال الله عزو جل، والتضرع إليه أن يثبت قلبك على الإيمان، وأن يصرفه إلى طاعة الله ورسوله، سيما أنْ تلهج بالآتي:
• "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلبي لطاعتك وطاعة رسولك".
• وكذلك الإكثار من الدعاء القرآني: "رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ" [سورة آل عمران: 8.].
• واللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور، وما شابه ذلك.
ثانياً: الإكثار من ذكر الله عزو جل
فهو العلاج النافع والبلسم الشافي من القسوة، ولهذا قال تعالى: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" [سورة الرعد: 28.]، وقال: "اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ" [سورة الزمر: 23.].
والذكر الذي يزيل القسوة المراد به تلاوة القرآن بتدبر، وتفكر، وتمعن، وكذلك الأذكار النبوية الجامعة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمَّا الأذكار البدعية والأوراد المحدثة فلا تزيد القلب إلاَّ قسوة وجفاء.
ثالثاً: الاكثار من ذكر هادم اللذات
ومفرق الجماعات وميتم البنين والبنات، ومأيم الأزواج والزوجات -الموت-، فكفى بالموت واعظاً، فقد صح عنه أنه قال: "اكثروا من ذكر هادم اللذات، الموت" [أحمد جـ2/292، والترمذي رقم [2307]، وابن ماجه رقم [4258].].
رابعاً: الاكثار من زيارة القبور للرجال




فقد قال صلى الله عليه وسلم مرغباً وحاضاً ومعللاً لزيارة القبور: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت" [مسلم رقم [976].]، وقال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة" [مسلم جـ2/672، والترمذي رقم [1054].].
خامساً: الاحسان لليتامى والأرامل والمساكين
عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال: إنْ احببت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم واطعم المساكين" [أحمد جـ2/263، وقال ابن رجب: اسناده جيد.].
سادساً: أكل الحلال الطيب
فإنه سبب رئيس لاصلاح القلوب والأبدان ولإجابة الدعاء.
اللهم إنا نسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، ونسألك شكر نعمك، وحسن عبادتك، وصلى الله وسلم على النبي الأكرم، وعلى آله وصحبه إلى يوم الحشر والنشور.




شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

Pages