..
وسبحت فى عالم آخر ..
هى .. هى
امراة بكامل معنها ..
رأيتها وانا اجلس على المقعد الضيق فى بص الحصاحيصا ...
ذلك البص العجيب ...
اوستن ذى العيون الكحيلة .. والحديد الصلب ، والمقاعد الحديدية الضيقة التى لم تطلها نعمة الكرم فى ورشة الحدادة ... والمقبض " الماسورى " الاملس " وماسورة ممتدة من اقصاه الى اقصاه يعتمد عليها الواقفون ويستعينوان عليها بالتأرجح حينما تخطو خطوات البص العجيب فوق حفر الظلط المبعثرة .
والمقاعد هناك ... مقعد وخليله ...
حفظ البص ود الناس فجعلهم لابد ان يتعارفون ... ففيه اختلاط الانفاس ، واختلاف الاجناس ...
وبين تحريك الحواس ومناداة الكمسارى للقادمين ... جلست هناك .. وبطبعى لا احب الا الشباك ، وفى حقيقة الامر هو لم يكن شباكا بل مشرعا نحو الفناء حبستة زاويتين عراض ، وانثنين برفق نحو الخارج يسابقننا الانفاس الى الهواء الطلق ..
وسبحت فى الوجوه الواقفة على موقف الحصاحيصا بالسوق الصغير ...
أكشاك البارد ، وصوت الخلاطات ، وروائح الجوافة ، وطنطنة الزباب .. وصوت مادح بمال يشق حدة الصمت .. ياراحلين الى منى بغيابى ... هيجتمو يوم الرحيييييييل فؤااااااااااادى ...
وما ان تموج اذنك مع هذا الصوت حتى يسرق شاب بجلبابه الابيض المتسخ نظرك ملوحا بجلباب يحمله بشماعة من عود النيم ، وجلابيب كثر قد ثناها بعناية وصوت رخيم " جلبب ... جلبب ... جلبب " ...
وفى زحمة السمع يشرد البصر ...
انها هناك تنتظر ...
امراة فى الثلاثينيات ...
لفها ثوبها البرتقالى اللون بعناية ...
وتنفست بعمق شديد .. وهى تحمل فتى ... جميل البشرة ، ابيض ... جميل الشعر ... ناعم ...
تدلت قدمها حتى ركبتيها ، وهى تحمله ...
يالله ...
انه فى حساباتى رجل ...
انه اكبر من الاربع سنوات ...
قلت فى نفسى .. " ما هذا الدلع ؟ "
حضته نحوها برفق ، وتاه وجهه فى كتفها وبقيت لنا الصورة فى الحنان ...
ادرت حوارا مع نفسى ...
ما لها هناك !؟ ...
هى ماشه وين ؟! ...
شعرت بدفئ يخالط قلبى وانا انظر اليهما ...
نظرت بعينى ، الى المشهد ، وانا احمل اشواق اهلى وحفاوة الرحلة الى مدنى ...
سالت نفسى مابه ؟
فاجابنى بالتفاتة بدت لى فيها ملامح وجهه الطفولى الجميل ...
انزلته امه لتستعدل ثوبها فجلس على الارض بوداعة عجيبة ، ثم التفت اليها ...
وفجأة شدنى انه يبحث عن يد امه ...
يالله ....
انه طفل كفيف ....
يالله ....
لم اجد طعما للفرح بعدها حتى نهاية الرحلة ... وظللت ابحث فى كل صورة عن نعمة البصر ومعنى العمى ...
انه هو ... هو ...
حدثت نفسى حينها ان انزل من البص برغم بعد المسافة بينى وبين امه ، طولا وسنا ، ومعنى ،
هممت ان اهديه كلمات أؤمن بها حقا ، وأهمس فى اذنه ...
انها لا تعمى الابصار ....
ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور ....
وبحق كم تمنيت ان اعرف اين صار ذلك الفتى ، وماذا اصبح الان بعد هذه السنوات الطوال ... حيث ان المشهد كان فى العام 1985
ولكم الود كله
انه شهر الربيع ...
حل هلاله ، وتسابقت نحو رائعة المجذوب ، بصوت الكابلى ... هناك على نقع الطبل دويا ...
وتطلعت انظار الصبية الصغار نحو >اك الشهر معانى ...
ونظرت بالامس الى أفق السماء فرأيت بعين البصر هليل ... وبعين البصيرة هلال ...
وسبحت فى جوف ذلك الصغير ... ووضعت خدى على كتف أمه لعلنى احس الشهر واتخيله ...
انه شهر ربيع ...
انه شهر نسيم بعد حرمة محرم ، وقصر صفر ...
انه عند الله واحد من اثنى عشر ...
انه شهر الحبيب ... انه شهر محمد .
اراه لا فى كثرة الحلوى ابتهاجا لكنه فى زهو الاية بشرى وامان " لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم "
يالله ...
عزيز عليه عنتنا ؟ ....
سرت فى نفسى سكينة ، ولين وقشعريرة ، ...
انه هو ذاته بمعيته .... وصحبته فى سنته ، ومصاحبته فى شرعته ، ومتابعته فى حديثه ، وترديد قوله ، والتغنى برسالته ، والسلام عليه ....
استوقفنى حديثه بين يدى الله فى سدرة المنتهى ...
فجبريل قد توقف ... عند منزلته ، وخشى الاحتراق ...
أما هو صلى الله عليه وسلم فقد تقدم ، بعد ان غشى السدرة ما يغشى ...
وبادر بالسلام على الجليل ..
التحيات لله ...
الزاكيات الصلوات الطيبات ....
فيرد رب العزة : السلام عليك ايها النبى ، ورحمة الله وبركاته ....
- يقول النبى صلى الله عليه وسلم متذكرنا فى حضرة المشهد : السلام علينا ، وعلى عباد الله الصالحين .
وتردد الملائكة فى الشهد الحضور ... اشهد الا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله .
( انها صيغة التشهد فى الصلاة ) نكررها كل يوم 9مرات ولكننا نعمى عن المشهد الذى قيلت فيه وتغيب علينا لذة الحوار ...
حريص علينا ؟ ...
تذكرت حينها حديثه الشريف " حياتى خير لكم ومماتى خير لكم ، فاما حياتى فانى اسنن لكم السنن ، واشرع لكم الشرائع ، واما مماتى فانه تعرض على اعمالكم فان رأيت فيها ما يسر حمدت الله عليه ، وان رأيت غير دلك استغفرت الله لكم " ...
بالمؤمنين رؤوف ، رحيم ؟
كفى به مناديا يوم تدعى كل امة بامامها .. " أمتى..... أمتى "
نسأل الله ان يجعل اطلالة الشهر فرحا بالتدبر فى معناه ، فهو بمقدار ما هو شهر المولد هو شهر وفاة النبى ، ولعمرى ان الله جعله فى ربيع ايضا لسببين : - هو ربيعه فى مولد حياة البرزخ ...
وهو ربيع الشهر حتى لا نعبد الشهر ونغفل عن مقصده .
ولكم الود كله
أحسنت وبيَّنت، وغصت في جوف المفردات لتخرج بهذه المعاني والدلالات، إنها درر ولآلي نفيسة لا يقوى على صيدها إلا من أوتي (سنارة أو شبكة) ذهنية نافذة، أي بصيرة متوقدة تنمُّ عن حصافة في الرؤية وقدرة على التأمل.. ولقد قلت حقًّا؛ فما أنا إلا واحد ممَّن عنيتَ، فأنا أقرأ هذه الحوار أكثر من عشرين مرة في اليوم دون أن تستوقفني دلالاته، وهو يجري على لساني ـ كالعوام ـ في غفلة كاملة عن استكناه أسراره وما يختبئ وراء أحرفه من لذة وأضواء بهيجة.. حوار لطيف في حضرة الذات، مشهدٌ تحفُّه إشعاعات نورانية ووهج شفيف، فالخالق يستقبل خير خلقه ويحييه باسمه (السلام) ثم تستدعي ذاكرة الرسول صلوات وسلامه عليه الصالحين من عباده، فهو لم ولن ينسى أمته، فهي حاضرة معه حياة وبعثًا وحسابًا.. فمن يستطيع استدعاء هذا المشهد بعظمته وعنفوانه حين يُكرَم برؤية ربِّه يومئذ؟ (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) و (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة).. أنا شخصيَّا لم أبلغ هذه المرحلة من الشفافية المتأتية عن الغوص في مفردات (التشهد) وعقلها وتدبُّرها وتصوِّر روعة الصعود معراجًا إلى السماوات العلى حتى سدرة المنتهى حيث ثبت الجنان ولم يزغ البصر أو يتحوَّل، ورأى حينها عجائب الملكوت رفرفًا أخضر سدَّ اُفق السماء، وأبصر جبريل على هيأته التي خُلق عليها بأجنحته الستمائة كما يقول المفسرون.. أحسستُ بكلماتك هذه يا ابني يا (هيثم)
وكأنهما يدان تهزَّاني هزًّا عنيفًا لأستيقظ وأدرك ما يجري حولي ولأعيَ ما أقرأ.. ولعلِّي ـ مثل كثير غيري ـ أتلوَ القرآن ولا تتجاوز أحرفه التراقي، وتظل عاجزة عن اختراق (الجمجمة).. هذه العظمة القاسية لتداعب الذهن وتحرِّكه وتستثير طاقة الإبداع الخاملة فيه، بل وتعجز حتى عن المرور عبر مفارق أضلع الصدر لتستقر في الوجدان، نعوذ برب السماوات والأرضين أن توصد قلوبنا بأقفال تحجبها عن الاستمتاع بلذة التنزيل.
يمرُّ شهر الربيع كما يمرُّ مارس أو شباط دون أن تومض ذكرى مولده وبعثته ومماته صلى الله عليه وسلم في الأذهان أو تغمر الوجدان، ولا نستشعر قيمة ذكر الله إلا في رمضان أو ذي الحجة لارتباطهما بمناسبتين عظيمتين.. إنه زمان الغفلة، ولعل الله أراد بعبثيات وهذيان الدنماركيين وغيرهم تنبيهنا لاستشعار سُنَّة رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، وإزالة الران عن القلوب لنجسد السُّنة الشريفة أدبًا وخُلٌقا وسلوكًا وتعاملاً في حياتنا.. وعسى أن نكره شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا.. وما هذه النفرة للشعوب المسلمة ـ نُصرةً له صلى الله عليه وسلم ـ إلا من بشريات البعث الإسلامي وتعريف غير المسلمين بمبادئ الإسلام وقيمه وتعاليمه.. وذلك حين ضعُف صوت الداعية وحاصره (طنين) الموتورين والمنافقين والملاحدة، و (مُكر وتداعيات 11 سبتمبر).
ليتنا نتأدب بأدبه، ويكون خلقنا القرآن اقتداءً به صلى الله عليه وسلم، وأن تظل محبته متجددة تجدد الدماء في الشرايين، وأن يكون احتفاؤنا به اتِّباعًا واقتداءً حقيقيًّا واهتداءً وصلاةً عليه وتسليمًا.. وبذلك تحيا قلوبنا ولن يضيرنا ما يبدر من سفهاء الخلق والشعوب.. فكيف بمن رفع ذكرَه ربُّه أن يضعه مخلوق؟ وأنَّى لمن زكَّاه الخالق من فوق سبع سماوات أن يشنأه كفَّار أثيم؟ إنما هي شنشنة تعرف من أخزم..
ليتني أستشعر مفردات القرآن الكريم ومعانيه وخطاباته، وليتني أعي صلاتي متجاوزًا بها تتابع حركاتها صعودًا وهبوطًا والذهن شارد والقلب غائب.. لعلنا وليتني أستذكر المناسبة فأدور وأدور في حلقة الشيخ المرجحن الذي يضرب النوبة ضربًا فتئن وترن.
رفع الله درجة (هيثم) عنده، وأعلى منزلته مع صالح السلف، وأجزل عطاءه، وأثرى مخيَّلته، وشحذ ذهنه، ونفعنا بما يكتب وأفادنا بما يقول، وبما يجري على لسانه وقلمه من تنبيهات وذكرى وشوارد عسانا نكون من المتذكرين.. وستظل الكتابة النافعة قمرًا تستنير به ظلمات الجوانح وتستهدي قلوب مواتٌٌ..