بسم الله الرحمن الرحيم
لقد توصَّلْتُ في قراءتي للقرآن أنّه يتوجَّبُ عليَّ الحجابُ ، لقد قرْأتُه أمراً من الله في كتابهِ المبينِ لنساءِ المؤمنينَ ، وليس كما كنْتُ أعتقد مما سمِعْتُه من الجاهلين في أمورِ الدين أنَّ الله أمر بالحجاب أمهات المؤمنين نساء النبي صلّى الله عليه وسلَّم خاصّةً .. ماذا ؟!! هل أستطيعُ تنفيذَ أمرِ اللهِ ؟ فعلاً صَعَقَني هذا الأمرُ الإلهيُّ ، حيث أدركْتُ أنَّ كلَّ ما كنت أفعلُه من صلاةٍ وقيامٍ في الليل ودعاءٍ وجدتُه هباءً منثوراً!! صُعِقْتُ لأنني كنتُ أظنُّ بأنني توصَّلتُ إلى إرضاءِ ربي بما أُمارسُه من عباداتي ، فعَلِمْتُ أنَّه ينقُصني اتباعُ أمرين مهمَّين بيَّنهما اللهُ في كتابهِ العزيزِ في سورةِ النور ، قال تعالى :
﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
[ سورة النور]
ما العملُ يا ربي ؟ كيف السبيلُ يا إلهي وأنا التي لا تُطيق اسم الحجابِ فكيف فِعْلَه؟! وأنا التي لا .. ولم .. ولن أستطيعَ أن أتخيَّلَ منظري مرتديةً لباساً شرعياً ، وأنا التي كنتُ أقولُ في كل مناسبةٍ يُذكَرُ بها الحجابُ : لو رأيتُ جهنَّمَ بأُم عَيني ما أنا بواضعتِهِ على رأْسي ولو أحرقوني بها مائة مرّةٍ . ما العمل الآن ؟ ما العملُ وقد عَلْمتُ بأنّه أمرٌ من اللهِ ، وعلى المؤمن أن يقولَ سَمعنا وأطَعنا ؟ إنَّ رأسي يكاد ينفجَّر من شدةِ التفكيرِ الواهِم بأنني إنسانةً منفردةً بميزةٍ جامعةٍ لكل الصفاتِ الحميدةِ .. طيبةُ قَلبي المتناهيةُ ، وحُبّي
للناس ، ومساعدةُ المحتاجين ، بالإضافةِ إلى صلاتي ، وقيامي ، وصيامي الذي أصبْحتُ أصومُه مستغِلَّةً كل استطاعتي على وفاءِ ديوني لله ، وتَعويضُ ما فرَّطْتُ بجنْب الله من حقوقٍ وعبادات ، والاستغفارُ الدائمُ مع الدعاء .. توهَّمت بأن كل ذلك سيُعفينني من العقاب ، لأن اللهَ يعلمُ بأني لا أُطيق الحجابَ ، وحَتماً سيسامِحَني ويُعفيني !!
بَقيتُ مدى شهورٍ على هذا الحالِ ، تارةً أُوهم نفسي برحمةِ ربي مع هذه المعصيةِ ، وتارةً أحاولُ إقناعَها بقَبولِ ما قرأْتُ وتنفيذِ ما أُمِرْتُ، وبأنّه يَشْمَلُني إذا كُنْتُ مؤمنةً حقاً ، وليسَ موقوفاً على نساءِ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، وفي ذلك مخالفةٌ لأوامر الله الذي أبتَغي رضاه ، فما هذا التناقضُ !! فأتذكَّر قولَه تعالى في سورة البقرة :
﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
فأشفق على نفسي من هذا التعنُّت والعناد .
يا إلهي كيف الوصولُ إلى اللينِ والرضوخِ لأمرِك ؟ إلهي بغيرِ عنايتِك بي ورأفَتِك بحالي وهدايَتِك لي وإلهامِك القَبولَ به لن يَحصلَ هذا ولو اجتمعتِ الإنسُ والجن على إقناعي به ، ومن رَحمةِ ربي بي ليُخلِّصَني من هذا الترددِ المُضني .. أَرسَل ابني البِكرَ من بلادِ الغرب ليُقيم في وطَنه بعد انتهاءِ أمرِه فيها .. وجاءَني بأجملِ وأثمنِ هديّةٍ ، ألا وهي زوجتُه العزيزةُ على قلبي ، والتي تحملُ طباعي الحميدةَ وعاداتي الحسنةَ التي تعلّمَتْها من زوجِها حتى ، غَدَت وكأنّي أنجْبتُها مني وربَّيتُها معي ، تلك الأجنبيةُ المُسلِمَةَ !! .
وطبعاً كنا نجتمع باستمرارٍ ، ولأنّه إنسان ذَكيُّ جداً يعي ما يَفعلُ ويَعلم أمورَ دينهِ جيداً ، ويؤمن بقول الله تعالى :
﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾
وقوله تعالى :
﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
فقد كان حِيادياً إلى أبعدِ الحدود في أمورِ الدين مع كلِّ الناس ، لم أَعهَدْ منه إِحراجاً يُربِكُ بهِ أحَداً ، ولكنَّه كان فقَط في كلِّ اجتماعٍ بين أفراد العائلةِ يشرَح لنا أموراً من أساسِ العقيدةِ الإسلاميةِ لم نكن على دِرايةٍ بها ، ويجعلُ وبدون تَكَلُّف منه الجلسةَ كلَّها شوقاً وانبهاراً وشغفاً إلى سماعِ المزيدِ من قِبَلِ الجميعِ ، كان يَتَعَمَّد أن لا يُسهبَ في حديثٍ إلا بإلحاحٍ من الجميع ، ويَقْطَعُ الجلسة والكُلُّ آذَانٌ صاغيةٌ إلى ما يقول ويبيِّنُ من أمورٍ جديدةٍ على أسماعِهم، ويَدَعُهُم في شوقٍ كبيرٍ إلى لقاءٍ قريبٍ ، حتى أنه جَعلَنا نتحيَّنُ الفُرَصَ ونخَتِلقُ الدعواتِ حتى نستَفْرِدَ به ويتسنّى لنا مزيداً من عِلمِهِ النيِّرِ والآَسِرِ للألبابِ والذي يُلَيِّن أكبرَ رأس متحجِّرٍ ، ويَجلي الصَدأ من رؤوس الجَهَلَةِ المتعنِّتين .
وبحمد الله ومِنَّتِهِ وفَضْلِه جَعَل قَبَسَ النورِ الإلهيِ على لسانِ ابني، فكانتْ الشرارةُ الملهِبةُ لجميع قناعاتي ، أنَّ من عَرف الله أحبَّه ، ومن أسكَن حبَّ الله قلَبه ينصاعُ لأوامره ، وينتهي بنواهيه ، حتى ولو كانت على غيرِ مزاجيَّتِه وأهوائِه ، وكان مَظْهَرَ زوجَتِه الأجنبيةِ بالحجابِ يُشعر بالخَجَل لكل مسلمةٍ اعتادَتْه بوارثةٍ للتقاليد ، ولمن تضعه إيماناً واحتساباً .
كيف أتوهَّمُ صعوبَتَه ، وتلك الأجنبيةُ كانت لا تَحْتَمِلُ أي لباسٍ على جَسدَها في حياتِها وبيئَتِها الغربيةِ !! فها هي تَضَعُه إيماناً بالله واحتساباً لمرضاتِه ، وكيف أتوهَّمُ من حَرِّهِ، وأنسى أو نتناسى حر جهنم، وقوله تعالى في سورة البقرة :
﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)
فلا بدَّ من خطوةٍ وعزيمة على التقرُّب إلى اللهِ عزَّ وجل بإطاعة أوامرِه ، فأيقَنْتُ الاستسلام لأمرِ الله ، ولكن كيف ؟. إن قلبي يَخفِق بشدةٍ لمشقَّةِ هذا الأمرِ على نفسي ، لا بدَّ من قَسْرها على طاعةِ خالِقها في تنفيذ أوامره . وبالقمعِ المطلق ، لأنها هي التي تُهلكُ صاحبها الذي ينقاد لتنفيذ أوامرها .
فعقَدْتُ العزم وذَهبْت مع ابنتي الشابةِ إلى السوقِ بعد انقطاعي عنه شهوراً عديدة تُقارب السَنةَ ، وأتْيتُه الآن لكي أشتري ثيابَ الطاعةِ والحِشمةِ وأنا مُشَتَّتة الفِكر ما بين عَقلي ونفسي ، قلبي يكادُ ينخلعُ من مكانِه لشدة فرحي بتلك الخطوةِ ، ونفسي تُهيبُني من مَقدِرَةِ احتمالِه ، يا ربُّ ، هل أستطيعُ ذلك ؟.. اللهم أَعِنِّي على طاعتِك ، واشترْيتُه ، اختارَتْه لي ابنتي من أجودِ الأنواعِ تعبيراً على فَرَح، لم أكن أَدري بأنها مفتاحُ الوصولِ إلى باب الحقِّ ، وإنَّه من خلالها فقط يستطيع الإنسانُ أن يتناجى مع ربِّه بصورةٍ حقيقيةٍ ألا وهي الصلاةُ الخاشعةُ .